حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان (1\2)
وفي الليلة الأولى بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان ملك يسمى شهرمان صاحب عسكر وخدم وأعوان إلا أنه كبر سنه ورق عظمه لم يرزق بولد فتفكر في نفسه وحزن وقلق وشكا ذلك لبعض وزرائه وقال: إني أخاف إذا مت أن يضيع الملك لأنه ليس لي ولد يتولاه بعدي، فقال له الوزير: لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً فتوكل على الله أيها الملك وتوضأ وصل ركعتين ثم جامع زوجتك لعلك تبلغ مطلوبك، فجامع زوجته فحملت في تلك الساعة ولما كملت أشهرها وضعت ولداً ذكراً كانه البدر السافر في الليل العاكر فسماه قمر الزمان وفرح غاية الفرح وزينوا المدينة سبعة أيام ودقت الطبول وأقبلت العشائر وحملته المراضع والدايات وتربى في العز والدلال حتى صار له من العمر خمس عشر سنة وكان فائقاً في الحسن والجمال والقد والإعتدال وكان أبوه يحبه ولا يقدر أن يفارقه ليلاً ولا نهاراً فشكا الملك شهرمان لأحد وزرائه فرط محبته لولده وقال: أيها الوزير لإني خائف على ولدي قمر الزمان من طوارق الدهر والحدثان وأريد أن أزوجه في حياتي. فقال له الوزير: اعلم أيها الملك إن الزواج من مكارم الأخلاق ولا بأس إن تزوج ولدك في حياتك فعند ذلك قال الملك شهرمان: علي بولدي قمر الزمان فحضر وأطرق رأسه إلى الأرض حياء من أبيه فقال له أبوه: يا قمر الزمان اعلم أني اريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي، فقال له: اعلم يا أبي أنني ليس لي في الزواج وليست نفسي تميل إلى النساء لأني وجدت في مكرهن كتباً بالروايات وبكيدهن وردت الآيات وقال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنـنـي خبير بأحوال النسـاء طـيب
إذا شاب رأس المرء وقل ماله فليس له في ودهن نصـيب
و لما فرغ من شعره قال: يا أبي إن الزواج شيء لا أفعله أبداً، فلما سمع السلطان شهرمان من ولده هذا الكلام اغتم غماً شديداً إلى عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان لما سمع من ولده هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتم على عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له ومن محبته له لم يكرر عليه الكلام في ذلك ولم يغضبه بل أقبل عليه وأكرمه ولاطفه بكل ما يجلب المحبة إلى القلب، كل ذلك وقمر الزمان يزداد في كل يوم حسناً وجمالاً وظرفاً ودلالاً فصبر الملك شهرمان على ولده سنة كاملة حتى صار كامل الفصاحة والملاحة وتهتكت في حسنه الوري وصار فتنة للعشاق وروضة للمشتاق عذب الكلام يخجل في وجهه بدر التمام صاحب قد واعتدال وظرف ودلال كانه غصن بان أو قضيب خيزران ينوب خده عن شقائق النعمان وقده عن غصن البان ظريف الشمائل كما قال فيه القائل:
بدا فقالوا تـبـارك الـلـه جل الذي صاغـه وسـواه
مليك كل الملاح قـاطـبة فكلهم أصبحـوا رعـاياه
في ريقه شـهـدة مـذوبة وانعقد الدار فـي ثـنـاياه
مكملاً بالجمال مـنـفـرداً كل الورى في جماله تاهوا
قد كتب الحسن فوق وجنته أشهد أنلا ملـيح إلا هـو
فلما تكاملت سنة أخرى لقمر الزمان ابن الملك شهرمان دعاه والده إليه وقال له: يا ولدي أما تسمع مني؟ فوقع قمر الزمان على الأرض بين يدي أبيه هيبة واستحى منه وقال له: يا أبي كيف لا أسمع منك وقد أمرني الله بطاعتك وعدم مخالفتك، فقال له الملك شهرمان: اعلم يا ولدي إني أريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي وأسلطنك في مملكتي قبل مماتي فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق رأسه وقال: يا أبي هذا شيء لا أفعله أبداً ولو سقيت كأس الردى وانا أعلم أن الله فرض علي طاعتك فبحق الله عليك لا تكلفني أمر الزواج ولا تظن أني اتزوج طول عمري لأنني قرأت في كتب المتقدمين والمتأخرين وعرفت ما جرى لهم من المصائب والآفات بسبب فتن النساء ومكرهن غير المتناهي وما يحدث عنهن من الدواهي وما أحسن قول الشاعر:
إن النساء وإن ادعين العـفة رمم تقلبها النسور الـحـوم
في الليل عندك سرها وحديثها وغداً لغيرك ساقها والمعصم
كالخان تسكنه وتصبح راحلاً فيحل بعدك فيه من لا تعلـم
فلما سمع شهرمان من ولده قمر الزمان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام لم يرد عليه جواباً من فرط محبته وزاد في إنعامه وإكرامه وانفض ذلك المجلس من تلك الساعة، وبعد انفضاض المجلس طلب شهرمان وزيره واختلى به وقال له: أيها الوزير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لوزيره: قل لي مالذي أفعله في قضية ولدي قمر الزمان؟ فإني استشرتك في زواجه قبل أن أسلطنه فأشرت علي بذلك وأشرت علي أيضاً أن أذكر له أمر الزواج فذكرته له فخالفني فأشر علي الآن بما تراه حسناً؟ فقال الوزير: الذي أشير به عليك الان أيها الملك أن تصبر عليه سنة أخرى فإذا أردت أن تكلمه بعدها في أمر الزواج فلا تكلمه سراً ولكن حدثه في يوم حكومة يكون جميع الأمراء والوزراء حاضرين وجميع العساكر واقفين فإذا اجتمع هؤلاء فأرسل إلى ولدك قمر الزمان في تلك الساعة وأحضره فإذا حضر فخاطبه في أمر الزواج بحضرة جميع الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الولة والعساكر وأصحاب الصولة فإنه يستحي منهم وما يقدر أن يخالفك بحضرتهم.
فلما سمع الملك شهرمان من وزيره هذا الكلام فرح فرحاً شديداً واستصوب رأي الوزير في ذلك وخلع عليه خلعة سنية فصبر الملك شهرمان على ولده قمر الزمان سنة كاملة وكلما مضى عليه يوماً من الأيام يزداد حسناً وجمالاً وبهجةً وكمالاً حتى بلغ من العمر قريباً عشرين عاماً وألبسه الله حلل الجمال وتوجه بتاج الكمال وأشرقت خدوده بالإحمرار وبياض غرته حكى القمر الزاهر وسواد شعره كأنه الليل العاكر وخصره أرق من خيط هميان وردفه أثقل من الكثبان تهيج البلابل على أعطافه ويشتكي خصره من ثقل أردافه ومحاسنه حبرت الورى كما قال فيه بعض الشعراء:
وبأسهم قد راشها من سـحـره
وبلين عطفه ومرهف لحـظـه وبياض غرته وأسود شـعـره
وبحاجب حجب الـكـرى عـن صبه وسطا عليه بنهيه وبأمـره
وعقارب قد أرسلت من صدغـه وسمعت لقتل العاشقين بهجـره
وبـورد خـديه وآس عــذاره وعقيق مبسمه ولؤلـؤ ثـغـره
وبطيب نكهتـه وسـال جـرى في فيه يزري بالرحيق وعصره
وبردفه المرتج في حـركـاتـه وسكونه وبرقة في خـصـره
وبجود راحته وصدق لـسـانـه وبطيب عنصره وعالي قـدره
ما المسك إلا من فضالة خـالـه والطيب يروي ريحه عن شعره
وكذلك الشمس المـنـيرة دونـه ورأى الهلال قلامة من ظفـره
ثم إن الملك شهرمان سمع كلام الوزير وصبر سنة أخرى حتى حصل يوم موسم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان دعى الأمراء والوزراء والحجاب وأرباب الدولة والعساكر وأصحاب الصولة، ثم أرسل خلف ولده قمر الزمان فلما حضر قبل الأرض بين يديه ثلاث مرات ووقف مكتفاً يديه وراء ظهره قدام ابيه فقال له أبوه: يا ولدي إنني ما أحضرتك هذه المرة قدام هذا المجلس وجميع العساكر حاضرون بين أيدينا إلا لأجل أن أمرتك بأمر فلا تخالفني فيه وذلك أن تتزوج لأنني أشتهي أن أزوجك بنت ملك الملوك وأفرح بك قبل موتي. فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلى أبيه ولحقه في تلك الساعة جنون الصبا وجهل الشبيبة فقال له: أما أنا فلا أتزوج أبداً ولو سقيت كأس الردى واما أنت فرجل كبير السن صغير العقل، إنك سألتني قبل هذا اليوم مرتين غير هذه المرة في شأن الزواج وانا لا اجيبك إلى ذلك، ثم إن قمر الزمان فك كتاف يديه وشمر عن زراعيه قدام أبيه وهو في غيظه فخجل أبوه واستحى حيث حصل ذلك قدام أرباب دولته والعساكر الحاضرين في الموسم. ثم إن الملك شهرمان لحقته شهامة الملك فصرخ على ولده فأرعبه وصرخ على المماليك وامرهم بإمساكه فأمسكوه وأمرهم أن يكتفوه فكتفوه وقدموه بين يدي الملك وهو مطرق في رأسه من الخوف والوجل وتكلل وجهه وجبينه بالعرق واشتد به الحياء والخجل، فعند ذلك شتمه ابوه وسبه وقال له: ويلك يا ولد الزنا وتربية الخنا كيف يكون هذا جوابك لي بين عساكري وجيوشي؟ ولكن إلى الآن ما أدبك أحد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان: اما تعلم أن هذا الأمر الذي صدر منك لو صدر عن عامي من العوام لكان ذلك قبيحاً منه، ثم إن الملك أمر المماليك أن يحلوا أكتافه ويحبسوه في برج من أبراج القلعة، فعند ذلك دخل الفراشون القاعة التي فيها البرج فكنسوها ومسحوا بلاطها ونصبوا فيها سرير قمر الزمان وفرشوا له على السرير طراحة ونطعاً ووضعوا له مخدة وفانوساً كبيراً وشمعة لأن ذلك المكان كان مظلماً في النهار، ثم إن المماليك أدخلوا قمر الزمان في تلك القاعة وجعلوا على باب القاعة خادماً، فعند ذلك طلع قمر الزمان فوق ذلك السرير وهو منكسر الخاطر حزين الفؤاد وقد عاتب نفسه وندم على ما جرى منه في حق أبيه حيث لا ينفعه الندم وقال: خيب الله الزواج والبنات والنساء الخائنات، فيا ليتني سمعت من والدي وتزوجت فلو فعلت ذلك كان أحسن لي من هذا السجن. هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
وأما ما كان من أمر أبيه فإنه أقام على كرسي مملكته بقية اليوم إلى وقت الغروب، ثم خلا بالوزير وقال له: اعلم أيها الوزير أنك كنت السبب في الذي جرى بيني وبين ولدي كله حيث أشرت علي بما أشرت فما الذي تشير به علي الآن؟ فقال له الوزير: أيها الملك دع ولدك في السجن مدة خمسة عشر يوماً ثم احضره بين يديك وأمره بالزواج فإنه لا يخالفك أبداً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قبل رأي الوزير في ذلك اليوم ونام تلك الليلة وهو مشتغل القلب على ولده لأنه كان يحبه محبة عظيمة حيث لم يكن له سواه، وكان الملك شهرمان كل ليلة لا يأتيه نوم حتى يجعل ذراعه تحت رقبة قمر الزمان وينام، فبات الملك الليلة وهو متشوش الخاطر من أجله وصار يتقلب من جنب إلى جنب كأنه نائم على جمر اللظى ولحقه الوسواس ولم يأخذه نوم في تلك الليلة بطولها وذرغت عيناه بالدموع وأنشد قول الشاعر:
لقد طال ليلي والوشاة هجـوع وناهيك قلباً بالفـراق مـروع
أقول وليلي زاد بالهم طـولـه أما لك يا ضوء الصباح رجوع
وقال آخر:
لما رأيت النجم ساه طـرفـه والقلب قد ألقى عليه سباتـا
وبنات نعش في الحداد سوافرا أيقنت أن صباحه قد مـاتـا
هذا ما كان من أمر الملك شهرمان، واما ما كان من امر قمر الزمان فإنه لما قدم عليه الليل قدم له الخادم الفانوس وأوقدوا له شمعة وجعلها في شمعدان وقدم له شيئاً من المأكل فأكل قليلاً وصار يعاتب نفسه حيث أساء الأدب في حق أبيه الملك شهرمان وقال في نفسه: ألم تعلم أن ابن آدم رهين لسانه وأن لسان الآدمي هو الذي يوقعه في المهالك؟ ولم يزل يعاتب نفسه ويلومها حتى غلبت عليه الدموع واحترق قلبه المصدوع وندم على ما خرج من لسانه في حق الملك غاية الندم وأنشد هذين البيتين:
يموت الفتى من عثرة في لسـانـه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه تقضي بـحـتـفـه وعثرته بالرجل تبرأ على مـهـل
ثم إن قمر الزمان لما فرغ من الأكل والشرب طلب أنيغسل يديه فغسل من الطعام وتوضأ وصلى المغرب والعشاء وجلس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان جلس على السرير يقرأ القرآن فقرأ سورة البقرة وآل عمران ويس والرحمن وتبارك والملك والمعوذتين وختم الدعاء واستعان بالله ونام على السرير فوق طراحة من الأطلس المعدن لها وجهان وهي محشوة بريش النعام، وحين أراد النوم تجرد من ثيابه وخلع لباسه ونام في قميص شمع رفيع وكان على رأسه مقنع مروزي أزرق فصار قمر الزمان في تلك الليلة كأنه البدر في ليلة أربعة عشر، ثم تغطى بملاءة من حرير ونام والفانوس موقد تحت رجليه والشمعة موقدة تحت رأسه ولم يزل نائماً إلى ثلث الليل ولم يعلم ما خبئ له في الغيب وما قدر عليه علام الغيوب، واتفق أنالقاعة والبرج كانا عتيقين مهجورين مدة سنين كثيرة، وكان في تلك القاعة بئر روماني معمور بجنية ساكنة فيه وهي من ذرية إبليس اللعين واسم تلك الجنيهة ميمونة ابنة الدمرياطاحد ملوك الجان المشهورين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اسم تلك الجنية ميمونة ابنة الدمرياط أحد ملوك الجان المشهورين فلما استمر قمر الزمان نائماً إلى ثلث الليل طلعت له تلك العفريتة من البئر الروماني وقصدت السماء لاستراق السمع فلما صارت في أعلى البئر رأت نوراً مضيئاً في البرج على خلاف العادة وكانت العفريتة مقيمة في ذلك المكان مدة مديدة من السنين فقالت في نفسها: أنا ما عهدت هنا شيئاً من ذلك وتعجبت من هذا الأمر غاية العجب وخطر ببالها أنه لا بد لذلك من سبب ثم قصدت ناحية ذلك النور فوجدته خارجاً من القاعة فدخلتها ووجدت الخادم نائماً على بابها. ولما دخلت القاعة وجدت سريراً منصوباً وعليه هيئة إنسان نائم وشمعة مضيئة عند رأسه وفانوس مضيء عند رجليه فتعجبت العفريتة ميمونة من ذلك النور وتقدمت إليه قليلاً قليلاً وأرخت أجنحتها ووقفت على السرير وكشفت الملاءة عن وجهه ونظرت إليه واستمرت باهتة في حسنه وجماله ساعة رومانية وقد وجدت ضوء وجهه غالباً على نور الشمعة وصار وجهه يتلألأ نوراً وقد غارت عيناه واسودت مقلتاه واحمر خداه وفتر جفناه وتقوس حاجباه وفاح مسكه العاطر كما قال فيه الشاعر:
قبلته فاسودت المقـل الـتـي هي فتنتني واحمرت الوجنات
يا قلب إن زعم العـواذل أنـه في الحسن يوجد مثله قل هاتوا
فلما رأته العفريتة ميمونة بنت الدمرياط سبحت الله وقالت: تبارك الله أحسن الخالقين وكانت تلك العفريتة من الجن المؤمنين فاستمرت ساعة وهي تنظر إلى وجه قمر الزمان وتوحد الله وتغبطه على حسنه وجماله وقالت في نفسها والله إني لا أضره ولا أترك احداً يؤذيه ومن كل سوء سوف افديه فإن هذا الوجه المليح لا يستحق إلا النظر إليه والتسبيح ولكن كيف هان على أهله حتى نسوه في هذا المكان الخرب فلو طلع له أحد من مردتنا في هذه الساعة لأعطبه ثم إن تلك العفريتة مالت عليه وقبلته بين عينيه وبعد ذلك أرخت الملاءة على وجهه وغطته بها وفتحت أجنحتها وطارت ناحية السماء وطلعت من دور تلك القاعة وصعدت ولم تزل صاعدة في الجو إلى أنقربت من سماء الدنيا وإذا بها سمعت خفق أجنحة طائرة في الهواء فقصدت ناحية تلك الجنحة. فلما قربت من صاحبها وجدته عفريتاً يقال له دهنش فانقضت عليه انقضاض الباشق فلما أحس بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجن خاف منها وارتعدت فرائصه واستجار بها وقال لها: أقسم عليك بالاسم الأعظم والطلسم الأكرم المنقوش على خاتم سليمان أن ترفقي بي ولا تؤذيني، فلما سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام حن قلبها عليه وقالت له: إنك أقسمت علي بقسم عظيم ولكن لا أعتقد حتى تخبرني من أين مجيئك في هذه الساعة؟ فقال لها: أيتها السيدة اعلمي أن مجيئي من آخر بلاد الصين ومن داخل الجزائر وأخبرك بأعجوبة رأيتها في هذه الليلة فإن وجدت كلامي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجن قال للجنية فإن وجدت كلامي صحيحاً فاتركيني أروح إلى حال سبيلي بخطك في هذه الساعة أني عشيقك في هذه الساعة حتى لا يعارضني أحد من رهط الجن الطيارة العلوية والسفلية والغواصة، قالت له ميمونة: فما الذي رأيته في هذه الليلة يا دهنش فاخبرني ولا تكذب علي وتريد بكذبك أن تنفلت من يدي وأنا أقسم لك بحق النقش المكتوب على فص خاتم سليمان بن داود عليه السلام إن لم يكن كلامك صحيحاً أنتفت ريشك بيدي ومزقت جلدك وكسرت عظمك فقال لها العفريت دهنش بن شمهورش الطيار: إن لم يكن كلامي صحيحاً فافعلي بي ما شئت يا سيدتي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العاشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنشاً قال: خرجت في هذه الليلة من الجزائر الداخلة في بلاد الصين وهي بلاد الغيور صاحب الجزائر والبحور السبعة قصور فرأيت لذلك الملك بنتاً لم يخلق الله في زمانها أحسن منها ولا اعرف كيف أصفها لك ويعجز لساني عن وصفها كما ينبغي ولكن أذكر لك شيئاً من صفاتها على سبيل التقريب أما شعرها فكليالي الهجر وأما وجهها فكأيام الوصال وقد أحسن في وصفها من قال:
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها في ليلة فأرت ليالي أربـعـا
واستقبلت قمر السماء وجههـا فأرتني القمرين في وقت معا
ولها أنف كحد السيف المصقول ولها وجنتان كرحيق الأرجوان ولها خد كشقائق النعمان وشفتاها كالمرجان والعقيق ورقها أشهى من الرحيق يطفئ مذاقه الحريق ولسانها يحركه عقل وافر وجواب حاضر ولها صدر فتنة لمن يراه فسبحان من خلقه وسواه ومتصل بذلك الصدر وعضدا من مرجان كما قال فيهما الشاعر الولهان:
وزندان لولا أمسكا بـأسـاور لسالا من الأكمام سيل الجداول
ولها نهدان كأنهما من العاج يستمد من إشراقهما القمران ولها بطن مطوية كطي القباطي المصرية وينتهي ذلك إلى خصر مختصر من وهم الخيال فوق ردف ككثيب من الرمال يقعدها إذا قامت ويوقظها إذا نامت كما قال فيه بعض واصفيه:
لها كفل تعلق في ضعـيف وذاك الردف لي ولها ظلوم
فيوقفني إذا فـكـرت فـيه ويقعدها إذا همت تـقـوم
يحمل ذلك الكفل فخذان كأنهما من الدر عمودان وعلى حمله ما أقدرهما إلا بركة الشيخ الذي بينهما وأما غير ذلك من الأوصاف فلا يحصيه ناعت ولا وصاف ويحمل ذلك كله قدمان لطيفتان صنعة المهيمن الديان فعجبت منهما وكيف كانا يحملان ما فوقهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية عشر بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت دهنش ابن شمهورش قال للعفريتة ميمونة: وأما وراء ذلك فإني تركته لأنه تقصر عنه العبارة ولا تفي به الإشارة وأبو تلك الصبية ملك جبار فارس كرار يخوض بحار الأقطار في الليل والنهار لا يهاب الموت ولا يخاف القوت لأنه جائر ظلوم وقاهر غشوم وهو صاح جيوش وعساكر واقاليم وجزائر ومدن ودور واسمه الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور وكان يحب ابنته هذه التي وصفتها لك حباً شديداً ومن محبته لها جلب أموال سائر الملوك وبنى لها بذلك سبعة قصور كل قصر من جنس مخصوص، القصر الأول من البلور والقصر الثاني من الرخام والقصر الثالث من الحديد الصيني، والقصر الرابع من الجزع والفصوص والقصر الخامس من الفضة والقصر السادس من الذهب، والقصر السابع من الجواهر وملأ السبعة قصور من أنواع الفرش الفاخرة وأواني الذهب والفضة وجمع الآلات من كل ما تحتاج إليه الملوك وأمر ابنته أن تسكن في كل قصر مدة السنة ثم تنقل منه إلى قصر غيره واسمها الملكة بدور. فلما اشتهر حسنها وشاع في البلاد ذكرها أرسل سائر الملوك إلى أبيها يخطبونها منه فزاودها في أمر الزواج فكرهت ذلك وقالت لأبيها: يا والدي ليس لي غرض في الزواج أبداً فإني سيدة وملكة أحكم على الناس ولا أريد رجلاً يحكم علي. وكلما امتنعت من الزواج زادت رغبة الخطاب فيها، ثم إن جميع ملوك جزائر الصين الجوانية أرسلوا إلى أبيها الهدايا والتحف وكاتبوه في أمر زواجها فكرر عليها أبوها المشاورة في أمر الزواج مراراً عديدة، فخالفته وغضبت منه وقالت له: يا أبي إن ذكرت لي الزواج مرة أخرى أخذت السيف ووضعت قائمه في الأرض ودبابه في بطني واتكأت عله حتى يطلع من ظهري وقتلت نفسي.
فلما سمع أبوها منها هذا الكلام صار الضياء في وجههظلام واحترق قلبه عليها غاية الإحتراق وخشي أن تقتل نفسها وتحير في أمرها وفي أمر الملوك الذين خطبوها منه، فقال لها: إن كان ولا بد من عدم زواجك فامتنعي من الدخول والخروج، ثم إن أباها أدخلها البيت وحجبها فيه، واستحفظ عليها عشر عجائز قهرمانات ومنعها من أنتذهب إلى السبع قصور وأظهر لها أنه غضبان عليها وأرسل يكاتب الملوك جميعهم وأعلمهم أنها أصيبت بجنون في عقلها ولها الآن سنة وهي محجوبة، ثم قال العفريت دهنش للعفريتة: وأنا يا سيدتي في كل ليلة فأنظرها وأتملى بوجهها وأقبلها بين عينيها ومن محبتي لها لا أضرها ولا أركبها لأن جمالها بارع وكل من رآها يغار عليها من نفسه. وأقسمت عليك يا سيدتي أن ترجعي معي وتنظري حسنها وجمالها وقدها واعتدالها وبعد هذا إن شئت أن تعاقبيني أو تأسريني فافعلي فإن الأمر أمرك والنهي نهيك، ثم إن العفريت دهنشاً أطرق رأسه إلى الأرض وخفض أجنحته إلى الأرض فقالت له العفريتة ميمونة بعد أن ضحكت من كلامه وبصقت في وجهه: أي شيء هذه البنت التي تقول عنها فما هي إلا قوارة بول فكيف لو رأيت معشوقي والله إن حسبت أن معك أمراً عجيباً أو خبراً غريباً، يا ملعون إني رأيت إنساناً في هذه الليلة لو رأيته ولو في المنام لنفلجت عليه وسالت ريالتك، فقال لها دهنش: وما حكاية هذا الغلام؟ فقالت له: اعلم يا دهنش أن هذا الغلام قد جرى له مثل ما جرى لمعشوقتك التي ذكرتها وأمره أبوه بالزواج مراراً عديدة فأبى، فلما خالف أباه غضب عليه وسجنه في البرج الذي أنا ساكنة فيه فطلعت في هذه الليلة فرأيته فقال لها دهنش: يا سيدتي أريني هذا الغلام لأنظر هل هو أحسن من معشوقتي الملكة بدور أم لا، لأني ما أظن أن يوجد في هذا الزمان مثل معشوقتي، فقالت له العفريتة: تكذب يا ملعون يا أنحس المردة وأحقر الشياطين فأنا أتحقق أنه لا يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريتة ميمونة قالت للعفريت دهنش: أنا أتحقق أنه لا يوجد لمعشوقي مثيل في هذه الديار فهل أنت مجنون حتى تقيس معشوقتك بمعشوقي؟ قال لها: بالله عليك يا سيدتي أن تذهبي معي وتنظري معشوقتي وأرجع معك وانظر معشوقك، فقالت له ميمونة: لا بد من ذلك يا ملعون لأنك شيطان مكار ولكن لا أجيء معك ولا تجيء معي إلا برهن فإن طلعتك معشوقتك التي أنت تحبها وتتغالى فيها أحسن من معشوقي الذي أحبه وأتغالى فيه فإن ذلك الرهان يكون لك وإن طلع معشوقي أحسن فإن ذلك الرهان يكون لي عليك. فقال لها العفريت دهنش: يا سيدتي قبلت منك هذا الشرط ورضيت به، تعالي معي إلى الجزائر فقالت له ميمونة إن موضع معشوقي أقرب من موضع معشوقتك وها هو تحتنا فانزل معي لتنظر معشوقي ونروح بعد ذلك إلى معشوقتك فقال لها دهنش: سمعاً وطاعة، ثم انحدرا إلى أسفل ونزلا في دور القاعة التي في البرج وأوقفت ميمونة دهنشاً بجانب السرير ومدت يدها ورفعت الملاءة عن وجه قمر الزمان ابن الملك شهرمان فسطع وجهه وأشرق ولمع وزرها فنظرته ميمونة والتفتت من وقتها إلى دهنش وقالت له أنظر يا ملعون ولا تكن أقبح مجنون فنحن بنات وبه مفتونات.
فعند ذلك التفت إليها دهنش واستمر يتامل فيه ساعة، ثم حرك رأسه وقال لميمونة: والله يا سيدتي إنك لمعذورة ولكن بقي شيء آخر وهو أن حال الأنثى غير حال الذكر وحق الله إن معشوقك هذا أشبه الناس بمعشوقتي في الحسن والجمال والبهجة والكمال وهما الاثنان كأنهما أفرغا في قالب الحسن سواء. فلما سمعت ميمونة من دهنش هذا الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً ولطمته بجناحها على رأسه لطمة قوية كادت أن تقضي عليه من شدتها وقالت له: قسماً بنور وجههو جلاله أن تروح يا ملعون في هذه الساعة وتحمل معشوقتك التي تحبها وتجيء بها إلى هذا المكان حتى نجمع بين الاثنين وننظرهما وهما نائمان بالقرب من بعضهما فيظهر لنا أيهما أحسن، وإن لم تفعل ما أمرتك به في هذه الساعة يا ملعون لأحرقتك بناري ورميتك بشرار أسراري ومزقتك قطعاً في البراري وجعلتك عبرة للمقيم والساري، فقال لها دهنش: يا سيدتي لك علي ذلك وأنا أعرف أن محبوبتي أحسن وأحلى ثم إن العفريت دهنشاً طار من وقته وساعته وطارت ميمونة معه من أجل المحافظة عليه فغابا ساعة زمانية ثم أقبل الاثنان وهما حاملان تلك الصبية وعليها قميص بندقي رفيع بطرازين من الذهب وهو مزركش ببدائع التطريزات وكتوب على رأس كميه هذه الأبيات:
ثلاثة منعـتـهـا مـن زيارتـنـا خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق
ضوء الجبين ووسواس الحلي ومـا حوت معاطفها من عنبـر عـبـق
هب الجبين بفضل الكم تـسـتـره والحلي تنزعه ما حـيلة الـعـرق
ثم إنهما نزلا بتلك الصبية ومدداه بجانب الغلام، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت والعفريتة كشفا عن وجوه ثلاثين فكانا أشبه الناس ببعضهما فكأنهما توأمان أخوان منفردان وهما فتنة للمتقين كما قال لهما التاجر المبين:
أتحب لا تعشق مليحاً واحداً تحتار فيه تدللاً وتـذلـلا
تحب الملاح جميعهم تلقاهم إن صد هذا كان هذا مقبلا
وكان دهنش وميمونة ينظران إليهما فقال دهنش: إن معشوقتي أحسن، قالت له ميمونة: بل إنه أحسن، ويلك يا دهنش هل أنت اعمى اما تنظر إلى حسنه وجماله وقده واعتداله؟ فاسمع ما أقول، وإن كنت محباً صادقاً لمن تعشقها فقل فيها مثل ما أقول في محبوبي ثم إن ميمونة قبلت قمر الزمان قبلات عديدة وأنشدت هذه القصيدة:
مالي وللاحـى عـلـيك يعـنـف كيف السلو وأنت غصـن أهـيف
لك مقلة كحلاء تنـفـث سـحـره ما للهوى العذري عنها مـصـرف
تركية الألحاظ تفعـل بـالـحـشـا ما ليس يفعله الصقيل المـرهـف
حملتني ثـقـل الـغـرام وإنـنـي بالعجز عن حمل القميص لا ضعف
وجدي عليك كما علمت ولوعـتـي طبع وعشقي في هواك تـكـلـف
لو أن قلبي مثل قلـبـك لـم أبـت والجسم مني مثل خصرك منحـف
ويلاه من قـمـر بـكـل مـلاحة بين الأنام وكل حـسـن يوصـف
قال العواذل في الهوى من ذا الـذ أنت الكثيب به فقلت لهم صـفـوا
يا قلبه القاسي تعـلـم عـطـفـه من قده فعسى ترق وتـعـطـف
لك يا أمير في الـمـلاحة نـاظـر يسطو علي وحاجـب لا ينـصـف
كذب الذي ظن المـلاحة كـلـهـا في يوسف كم في جمالك يوسـف
الجن تخشـانـي إذا قـابـلـتـهـا وأنا إذا ألقـاك قـلـبـي يرجـف
أتكلف الإعراض عـنـك مـهـابة وإليك أصبو جهد مـا أتـكـلـف
والشعر أسود والجبين مشـعـشـع والطرف أحور والقوام مهفـهـف
فلما سمع دهنش شعر ميمونة في معشوقها طرب غاية الطرب وتعجب كل العجب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنشاً قال: أنشدتيني فيمن تعشقينه هذا الشعر الرقيق مع أن بالك مشغول به ولكن أنا أبذل الجهد في إنشاد الشعر على قدر فكرتي ثم إن دهنشاً قام إلى معشوقته بدور وقبلها بين عينيها ونظر إلى العفرية ميمونة وإلى معشوقته بدور وجعل ينشد هذه القصيدة وهو بلا شعور:
أفوت معاهدهم بـشـط الـوادي فبقيت مقتولاً بـوسـط الـوادي
وسكرت من خمر الغرام ورقصت عيني الدموع على غناء الحـادي
أسعى لأسعد بالوصال وحق لي إن السعادة في بدور سـعـاد
لم أدر أي من الثلاثة أشتكـي ولقد عددت فاصغ لـلأعـداد
من لحظها السياف أم من قدها الرماح أم صدغهـا الـزراد
قالت وقد فتشت عنها كل مـن لاقيته من حـاضـر وبـادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ترني فقلت لها وأين فـؤادي
فلما فرغ من شعره قالت العفريتة: أحسنت يا دهنش ولكن أي هذين الاثنين أحسن؟ فقال لها: محبوبتي بدور أحسن من محبوبك، فقالت له: كذبت يا ملعون بل معشوقي أحسن من معشوقتك ثم إنهما لم يزالا يعارضان بعضهما في الكلام حتى صرخت ميمونة على دهنش وأرادت أن تبطش به فذل لها ورفق في كلامه وقال لها: لا يصعب عليك الحق فابطلي قولك وقولي فإن كلانا يشهد لمعشوقه أنه أحسن فنعرض عن كلام كل واحد منا ونطلب من يفصل الحكم بيننا بالإنصاف ونعتمد على قوله.
فقالت له ميمونة: وهو كذلك، ثم ضربت الأرض برجلها فطلع لها من الأرض عفريت أعور أجرب وعيناه مشقوقتان في وجهه بالطول وفي رأسه سبعة قرون وله أرب ذوائب من الشعر مسترسلة إلى الأرض ويداه مثل يدي القطرب له أظفار كأظفار الأسد ورجلان كرجلي الفيل وجوافر كحوافر الحمار فلما طلع ذلك العفريت ورأى ميمونة قبل الأرض بين يديها وتكتف وقال لها: ما حاجتك يا سيدتي يا بنت الملك؟ فقالت له: يا قشقش إني أريد أن تحكم بيني وبين هذا الملعون دهنش ثم إنها أخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فعندها نظر العفريت قشقش إلى وجه ذلك الصبي ووجه تلك الصبية فرآهما متعانقين وهما نائمان ومعصم كل منهما تحت عنق الأخر وهما في الحسن والجمال متشابهان وفي الملاحة متساويان فنظر وتعجب المارد قشقش من حسنهما وجمالهما والتفت إلى ميمونة ودهنش بعد أن أطال إلى الصبي والصبية الإلتفات وأنشد هذه الأبيات:
زر من تحب ودع مقالة حـاسـد ليس الحسود على الهوى بمساعد
لم يخلق الرحمن أحسن منـظـراً من عاشقين على فـراش واحـد
متعانقين عليهما حلـل الـرضـا متوسدين بمعصـم وبـسـاعـد
وإذا صفا لك من زمانـك واحـد فهو المراد وعش بذاك الواحـد
وإذا تألفت القلوب على الـهـوى فالناس تضرب في حـديد بـارد
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى هل يستطاع صلاح قلب فاسـد
يا رب يا رحمن تحسن ختمـنـا قبل الممات ولـو بـيوم واحـد
ثم إن العفريت قشقش التفت إلى ميمونة وإلى دهنش وقال لهما: والله ما فيهما أحد أحسن من الآخر ولا دون الآخر بل هما أشبه الناس ببعضهما في الحسن والجمال والبهجة والكمال، ولا يفرق بينهما إلا بالتذكير والتأنيث وعندي حكم أخر وهو أن ننبه كل واحد منهما من غير علم الأخر، وكل من التهب على رفيقه فهو دونه في الحسن والجمال، فقالت ميمونة: نعم هذا الرأي الذي قلته فأنا رضيته وقال دهنش وأنا رضيته، فعند ذلك انقلب دهنش في صورة برغوث ولدغ قمر الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنشاً لدغ قمر الزمان في رقبته في موضع ناعم فمد قمر الزمان يده على رقبته وهرش موضع اللدغة من شدة ما أحرقته فتحرك بجنبه فوجد شيئاً قائماً بجنبه ونفسه أذكى من المسك وجسمه ألين من من الزبد فتعجب قمر الزمان من ذلك غاية العجب ثم قام من وقته قاعداً ونظر إلى ذلك الشخص الراقد بجانبه فوجده صبية كالدرة السنية أو القبة المبنية بقامة ألفية خماسية القدر بارزة النهد موردة الخد كما قال فيها بعض واصفيها:
بدت قمراً وعادت غصن بان وفاحت عنبراً ورنت غزالا
كأن الحزن مشغوف بقلبـي فساعة هجرها يجد الوصالا
فلما رأى قمر الزمان السيدة بدور بنت الملك الغيور، وشاهد حسنها وجمالها وهي نائمة طوله ووجد فوق بدنها قميصاً بندقياً وهي بلا شروال وعليها كوفية من ذهب مرصعة بالجواهر وفي عنقها قلادة من الفصوص المثمنة لا يقدر عليها أحد من الملوك فصار مدهوش العقل من ذلك، ثم إنه حين شاهد حسنها تحركت فيه الحرارة الغريزية وألقى الله عليه شهوة الجماع وقال في نفسه: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ثم قلبها بيده ثاني مرة وفتح طوق قميصها فبان له بطنها ونظر إلى نهودها فازداد فيها محبة ورغبة فصار ينبهها وهي لا تنتبه، لأن دهنشاً ثقل نومها فصار قمر الزمان يهزها ويحركها ويقول: يا حبيبتي استيقظي وانظري من أنا فأنا قمر الزمان، فلم تستيقظ ولم تحرك رأسها، فعند ذلك تفكر في أمرها ساعة زمانية، وال في نفسه: إن صدق حذري فهذه الصبية هي التي يريد والدي زواجي بها، ومضى لي ثلاث سنين وأنا أمتنع من ذلك فإن شاء الله إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال في نفسه: إن شاء الله إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها ولا أترك نصف النهار يفوت حتى أفوز بوصلها وأتملى بحسنها وجمالها، ثم إن قمر الزمان مال إلى بدور ليقبلها فارتعدت ميمونة الجنية وخجلت، ثم إن قمر الزمان لما أراد أن يقبله في فمها استحى من الله، ولفت وجهه وقال في نفسه: أنا أصبر لئلا يكون والدي لما غضب علي وحبسني في هذا الموضع جاء لي بهذه العروسة وأمرها بالنوم جنبي ليمتحني بها، وأوصاها أني إذا نبهتها لا تستيقظ وقال لها أي شيء فعل بك قمر الزمان فاعلميني به وربما يكون والدي مستخفياً في مكان ما بحيث يطلع علي وأنا لا أنظره فينظر جميع ما أفعله بهذه الصبية وإذا أصبح يوبخني ويقول لي: كيف تقول لي مالي أرب في الزواج وأنت قبلت تلك الصبية وعانقتها، فأنا أكف نفسي عنها الليلة لئلا ينكشف أمري مع والدي فأنا لا ألمس الصبية من تلك الساعة ولا ألتفت لها غير أني آخذ لي منها شيئاً يكون أمارة عندي وتذكرة لها حتى يبقى بيني وبينها إشارة، ثم إن قمر الزمان رفع جريدة كفاح العمال الإشتراكي الصبية وأخذ خاتمها من خنصرها وهو يساوي حملة من المال لأن فصه من نفيس الجواهر ونقوش دائرته هذه الأبيات:
لا تحسبوا أني نسيت عهـودكـم مهما أطلتم في الزمان صدودكم
يا سادتي جودوا علي تعطـفـاً فعسى أقبل ثغركم وخـدودكـم
والله إني لست أبرح عـنـكـم ولو أعديتم في الغرام حدودكـم
ثم إن قمر الزمان نزع ذلك الخاتم من خنصر الملكة بدور ولبسه في خنصره وأدار ظهره إليها وقام ففرحت ميمونة الجنية لما رأت ذلك وقالت لدهنش وقشقش: هل رأيتما محبوبي قمر الزمان وما فعله من العفة عن هذه الصبية؟ فهذا من كمال محاسنه فانظروا كيف رأى هذه الصبية وحسنها وجمالها ولم يعانقها ولم يلمس بيده عليها بل أدار ظهره إليها ونام فقالا لها: قد رأينا ما صنع من الكمال فعند ذلك انقلبت ميمونة وجعلت نفسها برغوثاً ودخلت ثياب بدور محبوبة دهنش ومشت على ساقها وطلعت على فخذها ومشت تحت سرتها مقدار أربعة قراريط ولدغتها ففتحت عينيها واستوت قاعدة فرأت شاباً نائماً بجانبها وهو يغط في نومه وله خدود كشقائق النعمان ولواحظ تخجل الحور الحسان وفم كأنه خاتم سليمان وريقه حلو المذاق وأنفع من الترياق كما قال فيه بعض واصفيه:
سلا خاطري عـن زينـب ونـوار
بوردة خـد فـوق آس عـــذار
واصبحت بالظبى المقرمط مغرمـاً
ولا أرى لي في عشق ذات سـوار
أنيسي في النادي وفي خلوتي معـاً
خلاف أنيسي فـي قـرارة داري
فيا لائمي في هجر هـنـد وزينـب
وقد لاح عذري كالمصباح المساري
أتـرضـى بـأن أمـسـي أسـيرة
محصـنة أو مـن وراء جـداري
ثم إن الملكة بدور لما رأت قمر الزمان أخذها الهيام والوجد والغرام وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور قالت في نفسها: وافضيحتاه إن هذا شاب غريب لا أعرفه ما باله راقد بجانبي في فراش واحد؟ ثم نظرت إليه بعينيها وحققت النظر فيه وفي ظرفه ودلاله وحسنه وجماله ثم قالت: وحق الله أنه شاب مليح مثل القمر إلا أن كبدي تكاد أن تتمزق وجداً عليه وشغفاً بحسنه وجماله، فيا لفضيحتي منه والله لو علمت إن هذا الشاب هو الذي خطبني من أبي ما رددته بل كنت أتزوجه وأتملى بجماله، ثم إن الملكة بدور تطلعت من وقتها وساعتها في وجه قمر الزمان وقالت له: يا سيدي وحبيب قلبي ونور عيني انتبه من منامك وتمتع بحسني وجمالي، ثم حركته بيدها فأرخت عليه ميمونة الجنية النوم وثقلت رأسه بجناحها فلم يستيقظ قمر الزمان فهزته الملكة بدور بيديها وقالت له: بحياتي عليك أن تطيعني وانتبه من منامك وانظر النرجس والخضرة وتمتع ببطني والسرة وهارشني وناغشني من هذا الوقت إلى بكرة، قم يا سيدي واتكئ على المخدة ولا تنم، فلم يجبها قمر الزمان بجواب ولم يرد عليها خطاباً بل غط في النوم.
فقالت الملكة بدور: ما لك تائهاً بحسنك وجمالك وظرفك ودلالك فكما أنت مليح أنا الأخرى مليحة فما هذا الذي تفعله؟ هل هم علموك الصد عني أو أبي الشيخ النحس منعك من أنتكلمني في هذه الليلة؟ ففتح قمر الزمان عينيه فازدادت فيه محبة وألقى الله محبته في قلبها ونظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة فخفق فؤادها وتقلقلت أحشاؤها واضطربت جوارحها وقالت لقمر الزمان: يا سيدي كلمني يا حبيبي يا معشوقي رد علي الجواب وقل لي: ما اسمك فإنك سلبت عقلي، كل ذلك وقمر الزمان مستغرق في النوم ولم يرد عليها بكلمة. فتأوهت الملكة بدور وقالت: ما لك معجباً بنفسك؟ ثم هزته وقبلت يده فرأت خاتمها في إصبعه الخنصر فشهقت وأتبعتها بغنجة وقالت: أوه.. أوه والله أنت حبيبي وتحبني ولكن كأنك تعرض عني دلالاً مع أنك جئتني وأنا نائمة وما أعرف كيف عملت أنت معي ولكني ما أنا قالعة خاتمي من خنصرك ثم فتحت جيب قميصه ومالته عليه وقبلت رقبته وفتشت على شيء تأخذه منه فلم تجد معه شيئاً ورأته بغير سروال فمدت يدها من تحت ذيل قميصه وجست سيقانه فزلقت يدها من نعومة جسمه وسقطت على عضوه فانصدع قلبها وارتجف فؤادها إلا أن شهوة النساء أقوى من شهوة الرجال وخجلت وخجلت ثم نزعت خاتمه من إصبعه ووضعته في إصبعها موضعاً عن خاتمها وقبلته في ثغره وقبلت كفه ولم تترك فيه موضعاً إلا قبلته وبعد ذلك أخذته في حضنها وعانقته ووضعت إحدى يديها تحت رقبته والأخرى من تحت إبطه ونامت بجانبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملكة بدور نامت بجانب قمر الزمان وجرى ما جرى فلما رأت ذلك ميمونة فرحت غاية الفرح وقالت لدهنش: هل رأيت يا ملعون كيف فعلت معشوقتك من الوله بمعشوقي؟ وكيف فعل معشوقي من التيه والدلال فلا شك أن معشوقي أحسن من معشوقتك ولكن عفوت عنك، ثم كتبت له ورقة والتفتت إلى قشقش وقالت له: ادخل معه واحمل معشوقته وساعده على وصالها إلى مكانها لأن الليل مضى وفاتني مطلوبي، فتقدم دهنش وقشقش إلى الملكة بدور وخلا تحتها وحملاها وطارا بها وأوصلاها إلى مكانها واعاداها إلى فراشهاو اختلت ميمونة النظر إلى قمر الزمان وهو نائم حتى لم يبق من الليل إلا القليل ثم توجهت إلى حال سبيلها. فلما انشق الفجر انتبه قمر الزمان من منامه والتفت يميناً وشمالاً فلم يجد الصبية عنده فقال في نفسه: ما هذا الأمر كأن أبي يرغبني في الزواج بالصبية التي كانت عندي ثم أخذها سراً لأجل أن تزداد رغبتي في الزواج ثم صرخ على الخادم الذي هو نائم على الباب وقال له: ويلك يا مامون قم فقام الخادم وهو طائش العقل من النوم ثم قدم له الطشت والإبريق فقام قمر الزمان ودخل المستراح وقضى حاجته وخرج وتوضأ وصلى الصبح وجلس يسبح الله ثم نظر إلى الخادم فوجده واقفاً في خدمته بين يديه فقال له: ويلك يا صواب، من جاء هنا وأخذ الصبية من جنبي وانا نائم؟ فقال الخادم: يا سيدي أي شيء للصبية؟ فقال قمر الزمان: الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة، فانزعج الخادم من كلام قمر الزمان وقال له: لم يكن عندك صبية ولا غيرها ومن أين دخلت الصبية وأنا نائم وراء الباب وهو مقفول؟ والله يا سيدي ما دخل عليك لا ذكر ولا أنثى، فقال له قمر الزمان: تكذب يا عبد النحس وهل وصل من قدرك أنت الأخر أنك تخادعني، ولا تخبرني أين راحت هذه الصبية التي كانت نائمة عندي غي هذه الليلة ولم تخبرني بالذي أخذها من عندي؟ فقال الطواشي وقد انزعج منه: والله يا سيدي ما رأيت صبية ولا صبياً، فغضب قمر الزمان من كلام الخادم وقال له: إنهم علموك الخداع يا ملعون فتعالى عندي، فتقدم الخادم إلى قمر الزمان فأخذ بأطواقه وضرب به الأرض فضرط ثم برك عليه قمر الزمان ورفسه برجله وخنقه حتى غشي عليه ثم بعد ذلك ربطه في سلبة البئر وأدلاه فيه إلى أن وصل إلى الماء وأرخاه وكانت تلك الأيام برد وشتاء قاطع فغطس الخادم في الماء ثم نشله قمر الزمان وأرخاه، وما زال يغطس ذلك الخادم في الماء وينشله منه والخادم يستغيث ويصرخ ويصيح وقمر الزمان يقول له: والله يا ملعون ما أطلعك من هذه البئر حتى تخبرني بخبر هذه الجارية وقضيتها ومن الذي أخذها وأنا نائم؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم قال لقمر الزمان: أنقذني من البئر يا سيدي وأنا أخبرك بالصحيح، فجذبه من البئر وأطلعه وهو غائب عن الوجود من شدة ما قاساه من الغرق والبرد والضرب والعذاب وصار يرتعد مثل القصبة في الريح العاصف واشتبكت أسنانه في بعضها وابتلت ثيابه بالماء فلما رأى الخادم نفسه على وجه الأرض قال له: دعني يا سيدي أروح وأقلع ثيابي وأعصرها وأنشرها في الشمس وألبس غيرها، ثم أحضر إليك سريعاً وأخبرك بأمر تلك الصبية وأحكي لك حكايتها. فقال قمر الزمان: والله يا عبد النحس لولا أنك عاينت الموت ما أقررت بالحق فاخرج لقضاء أغراضك وعد إلي بسرعة واحك لي حكاية الصبية وقصتها، فعند ذلك خرج الخادم وهو لا يصدق بالنجاة ولم يزل يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان أبي قمر الزمان فوجد الوزير بجانبه وهما يتحدثان في أمر قمر الزمان فسمع الملك يقول للوزير: لإني ما نمت في هذه الليلة من اشتغال قلبي بولدي قمر الزمان وأخشى أن يجري له شيء في هذا الربج العتيق وما كان في سجنه شيء من المصلحة، فقال له الوزير: لا تخف عليه والله لا يصيبه شيء ودعه مسجوناً شهراً كاملاً حتى تلين عريكته. فبينما هما في الكلام وإذا بالخادم دخل عليهما وهو في تلك الحالة وقال له: يا مولانا السلطان إن ولدك حصل له جنونو قد فعل بي هذه الفعال، وقال لي: إن صبية باتت عندي في هذه الليلة وذهبت خفية فأخبرني بخبرها وأنا لا أعرف ما شأن هذه الصبية، فلما سمع السلطان شهرمان هذا الكلام عن ولده قمر الزمان صرخ قائلاً: واولداه، وغضب على الوزير الذي كان سبباً في هذه الأمور غضباً شديداً وقال له: قم اكشف لي خبر ولدي قمر الزمان، فخرج الوزير وهو يتعثر في أذياله من خوفه من الملك وراح مع الخادم إلى البرج وكانت الشمس قد طلعت فدخل الوزير على قمر الزمان فوجده جالساً على السرير يقرأ القرآن فسلم عليه الوزير وجلس إلى جانبه وقال له: يا سيدي إن هذا العبد النحس أخبرنا بخبر شوش علينا وأزعجنا فاغتاظ الملك من ذلك، فقال له قمر الزمان: أيها الوزير، وما الذي قاله لكم عني حتى شوش على أبي وفي الحقيقة هو ما شوش إلا علي، فقال له الوزير: إنه جاءنا بحالة منكرة وقال لنا قولاً حاشاك منه وكذب علينا بما لا ينبغي أن يذكر في شانك فسلامة شبابك وعقلك الرجيح ولسانك الفصيح وحاشى أنيصدر منك شيء قبيح، فقال له قمر الزمان: فأي شيء قال هذا العبد النحس فقال له الوزير: إنه أخبرنا أنك جننت وقلت له كان عندي صبية في الليلة الماضية، فهل قلت للخادم هذا الكلام؟ فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً وقال للوزير: تبين لي أنكم علمتم الخادم الفعل الذي صدر منه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان، قال للوزير: تبين لي أنكم منعتموه من أن يخبرني بأمر الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة وأنت أيها الوزير أعقل من الخادم فأخبرني في هذه الساعة أين ذهبت الصبية المليحة التي كانت نائمة في حضني في تلك الليلة فأنتم الذين أرسلتموها وأمرتموها أن تبيت في حضني ونمت معها إلى الصباح فلما انتبهت ما وجتها، فأين هي الآن؟ فقال الوزير: يا سيدي قمر الزمان اسم الله حواليك وإنا ما أرسلنا لك في هذه الليلة أحداً وقد نمت وحدك والباب مقفل عليك والخادم نائم من خلف الباب وما أتى إليك صبية ولا غيرها فارجع إلى عقلك يا سيدي ولا تشغل خاطرك، فقال له قمر الزمان وقد اغتاظ من كلامه: أيها الوزير: أيها الوزير إن تلك الصبية معشوقتي وهي المليحة صاحبة العيون السود والخدود الحمر التي عانقتها في هذه الليلة، فتعجب الوزير من كلام قمر الزمان وقال له: هل رأيت الصبية في هذه الليلة بعينك في اليقظة أو في المنام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس أتظن أني رأيتها بأذني إنما رأيتها بعيوني في اليقظة وقلبتها بيدي وسهرت معها نصف ليلة كاملة وأنا أتفرج على حسنها وجمالها وظرفها ودلالها وإنما انتم أوصيتموها أنها لا تكلمني فجعلت نفسها نائمة فنمت بجنبها إلى الصباحثم استيقظت من منامي فلم أجدها،فقال له الوزير: يا سيدي قمر الزمان ربما تكون رأيت هذا الأمر في المنام فيكون أضغاث أحلام أو تخيلات من أكل مختلف الطعام أو وسوسة الشياطين اللئام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس كيف تهزأ بي أنت الأخر وتقول لي لعل هذا أضغاث أحلام مع أن الخادم قد أقر بتلك الصبية وقال لي في هذه الساعة أعود إليك وأخبرك بقصتها؟ ثم إن قمر الزمان قام من وقته وتقدم إلى الوزير وقبض على لحيته في يده وكانت لحيته طويلة فأخذها قمر الزمان ولفها على يده وجذبه منها فرماه من فوق السرير وألقاه على الأرض فأحس الوزير أن روحه طلعت من شدة نتف لحيته وما زال قمر الزمان يرفس الوزير برجليه ويصفعه على قفاه بيديه حتى كاد أن يهلكه.
فقال الوزير في نفسه: إذا كان العبد الخادم خلص نفسه من هذا الصبي المجنون بكذبة فأنا أولى بذلك منه وأخلص نفسي أنا الآخر بكذبة وإلا يهلكني، فهاأنا أكذب وأخلص روحي منه فإنه مجنون ولا شك في جنونه، ثم إن الوزير التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا سيدي لا تؤاخذني فإن والدك أوصاني أن أكتم عنك خبر هذه الصبية وأنا الآن عجزت وكليت من الضرب لأني بقيت رجلاً كبيراً وليس لي قوة تحمل الضرب فتمهل علي قليلاً حتى أحدثك بقصة الصبية. فعند ذلك منع عنه الضرب وقال له: لأي شيء لم تخبرني بخبر تلك الصبية إلا بعد الضرب والإهانة فقم أيها الشيخ النحس واحك لي خبرها، فقال له الوزير: هل أنت تسأل عن تلك الصبية صاحبة الوجه المليح والدقد الرجيح؟ فقال له قمر الزمان: نعم أخبرني أيها الوزير من الذي جاء بها إلي وأنامها عندي وأين هي في هذه السهاة حتى أروح إليها بنفسي؟ فإن كان أبي الملك شهرمان فعل معي هذه الفعال وامتحني بتلك الصبية المليحة من أجل زواجها فأنا رضيت أن أتزوج بها فإنه ما فعل معي هذا الأمر كله وولع خاطري بتلك الصبية، بعد ذلك حجبها عني إلا من أجل امتناعي من الزواج فهاأنا رضيت بالزواج، فأعلم والدي بذلك أيها الوزير وأشر إليه أن يزوجني بتلك الصبية فإني لا أريد سواها وقلبي لم يعشق إلا إياها، فقم وأسرع إلى أبي وأشر إليه بتعجيل زواجي ثم عد إلي قريباً في هذه الساعة، فما صدق الوزير بالخلاص من قمر الزمان حتى خرج من البرج وهو يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير خرج يجري من البرج إلى أن دخل على الملك شهرمان فلما دخل عليه قال له الملك: أيها الوزير ما لي أراك في ارتباك ومن الذي بشره رماك حتى جئت مرعوباً؟ فقال للملك: إني قد جئتك ببشارة، فقال الملك: وما تلك البشارة؟ قال له: اعلم أن ولدك قمر الزمان قد حصل له جنون، فلما سمع الملك كلام الوزير صار الضياء في وجهه ظلاماً وقال له: أيها الوزير أوضح لي صف جنون ولدي؟ قال له الوزير: سمعاً وطاعة، ثم أخبره بما صدر من ولده فقال الملك: أبشر أيها الوزير إني أعطيك في نظير بشارتك إياي بجنون ولدي ضرب رقبتك وزوال النعم عنك يا أنحس الوزراء وأخبث الأمراء لأني اعلم أنك سبب جنون ولدي بمشورتك ورأيك التعس الذي أشرت به علي في الأول والآخر والله إن كان ياتي على ولدي شيء من الضرر أو الجنون لأسمرنك على القبة وأذيقنك النكبة.
ثم إن الملك نهض قائماً على قدميه وأخذ الوزير معه ودخل به البرجالذي نزل فيه قمر الزمان فلما وصلا إليه قام قمر الزمان على قدميه لوالده ونزل سريعاً من فوق السرير الذي هو جالس عليه وقبل يديه ثم تأخر وراءه وأطرق رأسه إلى الأرض وهو مكتف اليدين قدام أبيه ولم يزل كذلك ساعة زمانية وبعد ذلك رفع راسه إلى والده وفرت الدموع من عينيه وسالت على خديه وأنشد قول الشاعر:
إن كنت قد أذنبت سالـفـاً
في حقكم وأتيت شيئاً منكراأنا تائب عما جنيت وعفوكم
يسع المسئ إذا أتا مستغفرا
فعند ذلك قام الملك شهرمان وعانق ولده قمر الزمان وقبله بين عينيه وأجلسه إلى جانبه فوق السرير، ثم التفت إلى الوزير بعين الغضب وقال له: يا كلب الوزراء كيف تقول على ولدي قمر الزمان ما هو كذا وكذا وترعب قلبي عليه؟ ثم التفت إلى ولده وقال له: يا ولدي ما اسم هذا اليوم؟ فقال له: يا والدي هذا اليوس السبت وغداً يوم الأحد وبعده الاثنين وبعده الثلاثاء وبعده الأربعاء وبعده الخميس وبعده الجمعة. فقال له الملك: يا ولدي قمر الزمان الحمد لله على سلامتك، ما اسم هذا الشهر الذي علينا بالعربي؟ فقال: اسمه ذو القعدة ويليه ذو الحجة وبعده المحرم وبعده صفر وبعده ربيع الأول وبعده ربيع الثاني وبعده جمادى الأولى وبعده جمادى الثانية وبعده رجب وبعده شعبان وبعده رمضان وبعده شوال. ففرح بذلك الملك فرحاً شديداً وبصق في وجه الوزير وقال له: يا شيخ السوء كيف تزعم أن ولدي قمر الزمان قد جن والحال أنه ما جن إلا أنت. فعند ذك حرك الوزير رأسه وأراد أن يتكلم ثم خطر بباله أن يتمهل قليلاً لينظر ماذا يكون ثم إن الملك قال لولده: يا ولدي أي شيء هذا الكلام الذي تكلمت به للخادم والوزير حيث قلت لهما: إني كنت نائماً أنا وصبية مليحة في هذه الليلة، فما شأن هذه الصبية التي ذكرتها؟ فضحك قمر الزمان من كلام أبيه وقال له: يا والدي اعلم أنه ما بقي لي قوة تتحمل السخرية فلا تزيدوا علي شيئاً ولا كلمة واحدة، فقد ضاق خلقي مما تفعلونه معي واعلم يا والدي أني رضيت بالزواج ولكن بشرط أن تزوجني تلك الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة فإني أتحقق أنك أنت الذي أرسلتها إلي وشوقتني إليها وبعد ذلك أرسلت إليها قبل الصبح وأخذتها من عندي، فقال: اسم الله حواليك يا ولدي سلامة عقلك من الجنون. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان أي شيء هذه الصبية التي تزعم أني أرسلتها في هذه الليلة ثم أرسلت أخذتها من عندك قبل الصباح والله يا ولدي ليس لي علم بهذا الأمر. فبالله عليك أن تخبرني هل ذلك أضغاث أحلام أو تخيلات طعام فإنك بت في هذه الليلة وأنت مشغول الخاطر بالزواج وموسوس بذكره قبح الله الزواج وساعته وقبح من أشار به أنك متكدر المزاج من جهة الزواج فرأيت في المنام أن صبية مليحة تعانقك وأنت تعتقد في بالك انك رأيتها في اليقظة وهذا كله يا ولدي أضغاث أحلام.
فقال قمر الزمان: دع عنك هذا الكلام، واحلف بالله الخالق العلام قاصم الجبابرة ومبيد الأكاسرة أنه لم يكن عندك خبر بالصبية ومحلها؟ فقال الملك: وحق إله موسى وابراهيم أنه لم يكن لي علم بذلك، ولعله أضغاث أحلام رأيته في المنام، فقال قمر الزمان لوالده: أنا أضرب لك مثلاً يبين لك أن هذا كان في اليقظة.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال لوالده هذا المثل هو أني أسألك هل اتفق لأحد أنه رأى نفسه في المنام يقاتل وقد قاتل قتالاً شديداً وبعد ذلك استيقظ من منامه فوجد في يده سيفاً ملوثاً بالدم؟فقال له والده: لا والله يا ولدي لم يتفق هذا، فقال له قمر الزمان: أخبرك بما حصل لي وهو أني رأيت في هذه الليلة كأني استيقظت من منامي نصف الليل فوجدت بنتاً نائمة بجانبي وقدها كقدي وشكلها كشكلي فعانقتها ومسكتها بيدي وأخذت خاتمها ووضعته في إصبعي وامتنعت عنها حياء منك وظننت أنك أرسلتها واستخفيت في موضع لتنظر ما أفعل، واستحييت من أجل ذلك أن أقبلها في فمها حياء منك، وخطر ببالي أنك تمتحني بها حتى ترغبني في الزواج.
و بعد ذلك انتبهت من منامي في وجه الصبح فلم أجد للصبية من أثر ولا وقفت لها على أثر على خبر وجرى لي مع الخادم والوزير ما جرى فكيف يكون هذا الأمر كذباً وأمر الخاتم صحيحاً؟ ولولا الخاتم كنت أظن أنه منام وهذا خاتمها في خنصري في هذه الساعة فانظر أيها الملك إلى الخاتم كم يساوي، ثم إن قمر الزمان ناول الخاتم لأبيه فأخذه وقلبه ثم التفت إلى ولده وقال له: إن لهذا الخاتم نبأً عظيماً وخبراً جسيماً وإن الذي اتفق لك في هذه الليلة مع تلك الصبية أمر مشكل ولا أعلم من أين دخل علينا هذا الدخيل وما تسبب في هذا كله إلا الوزير فبالله عليك يا ولدي أن تصبر لعل الله يفرج عنك هذه الكربة ويأتيك بالفرج العظيم كما قال الشاعر:
عسى ولعل الدهر يلوي عنانه
ويأتي بخير فالزمان غـيور
وتسعد آمالي وتقضي حوائجي
وتحدث من بعد الأمور أمور
>
فيا ولدي قد تحققت في هذه الساعة أنه ليس بك جنون ولكن قضيتك ما يجليها إلا الله، فقال قمر الزمان لوالده: بالله يا والدي أنك تفحص لي عن هذه الصبية وتعجل بقدزمها وإلا مت كمداً، ثم إن قمر الزمان أظهر الوجد والتفت بالوصل إلى أبيه وأنشد هذين البيتين:
إن كان في وعدكم بالوصـل تـزوير
ففي الكرى واصلوا المشتاق أو زورا
قالوا وكيف يزور الطيف جفن فتى
منامه عند ممنوع ومـحـجـورا
ثم إن قمر الزمان بعد إنشاد هذه الأشعار التفت إليه أبيه بخضوع وانكسار وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
خذوا حذركم من طرفها فهو ساحر
وليس بناج من رمته المـحـاجـر
ولا تخدعوا من رقة في كلامـهـا
فإن الحميا للعـقـول تـخـامـر
منعمه لولا مـس الـورد خـدهـا
بكت وبدت من مقلتيها الـبـواتـر
فلو في الكرى مر النسيم بأرضهـا
سرى وبدا من ارضها وهو عواطر
فلما فرغ قمر الزمان من شعره قال الوزير للملك: يا ملك الزمان إلى متى أنت محجوب عن العسكر عند ولدك قمر الزمان فربما يفسد عليك نظام المملكة بسبب بعدك عن أرباب دولتك، والعاقل إذا ألمت بجسمه أمراض مختلفة يجب أن يبدأ بمداواة أعظمها، والرأي عندي أن تنقل ولدك فيه وتجعل للموكب والديوان في كل جمعة يومين الخميس والاثنين فيدخل عليك الأمراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وخواً المملكة وأصحاب الصولة وبقية العساكر والرعية ويعرضون عليك أحوالهم فاقض حوائجهم واحكم بينهم وخذ مطلبهم وأمر وانهي بينهم، وبقية الجمعة تكون عند ولدك قمر الزمان ولا تزال على تلك الحالة حتى يفرج الله عنك وعنه، ولا تأمن أيها الملك من نوائب الزمان وطوارق الحدثان فإنه العاقل دائماً محاذر وما أحسن قول الشاعر:
حسنت ظنك بالأيام إذ حـسـنـت
|
ولم نخف سوء ما يأتي به القـدر
| |
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند
|
وعند صفو الليالي يحدث الكـدر
| |
يا معشر الناس من كان الزمان له
|
مساعد فليكن من رأيه الـحـذر
|
فلما سمع السلطان من الوزير هذا الكلام رآه صواباً ونصيحة في مصلحته فأثر عنده وخاف أن ينفسد عليه نظام الملك فنهض من وقته وساعته وأمر بتحويل ولده من ذلك المكان إلى القصر الذي في السرايا المطل على البحر ويمشون إليه على ممشاة في وسط البحر عرضها عشرون ذراعاً وبدائر القصر شبابيك مطلة على البحر وأرض ذلك القصر مفروشة بالرخام الملون وسقفه مدهون بأفخر الدهان من سائر الألوان ومنقوش بالذهب واللازورد ففرشوا لقمر الزمان فيه البسط الحرير وألبسوا حيطانه الديباج وأرخوا عليه الستائر المكللة بالجواهر ودخل فيه قمر الزمان وصار من شدة العشق كثير السهر، فاشتغل خاطره واصفر لونه وانتحل جسمه، وجلس والده عند رأسه وحزن عليه.
و صار الملك كل يوم اثنين وخميس يأذن في أن يدخل عليه من شاء الدخول الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وسائر العساكر والرعية في ذلك القصر فيدخلون عليه ويؤدون وظائف الخدمة ويقيمون عنده إلى آخر النهار ثم ينصرفون بعد ذلك إلى حال سبيلهم وبعد ذلك يدخل الملك عند ولده قمر الزمان في ذلك المكان ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، ولم يزل على تلك على تلك الحالة مدة أيام وليال من الزمان.
هذا ما كان من أمر قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والسبعة قصور فإن الجن لما حملوها وأناموها في فراشها لم يبق من الليل إلا ثلاث ساعات، ثم طلع الفجر فاستيقظت من منامها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
هذا ما كان من أمر قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والسبعة قصور فإن الجن لما حملوها وأناموها في فراشها لم يبق من الليل إلا ثلاث ساعات، ثم طلع الفجر فاستيقظت من منامها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما استيقظت من منامها جلست والتفتت يميناً وشمالاً فلم تر معشوقها الذي كان في حضنها فارتجف فؤادها وزال عقلها وصرخت صرخة عظيمة فاستيقظ جميع جواريها والدايات والقهرمانات ودخلن عليها فتقدمت إليها كبيرتهن وقالت لها: يا سيدتي ما الذي أصابك؟ فقالت لها: أيتها العجوز النحس أين معشوقي الشاب الذي كان نائماً هذه الليلة في حضني فأخبريني أين راح؟ فلما سمعت منها القهرمانة هذا الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً وخافت من بأسها خوفاً عظيماً وقالت: يا سيدتي بدور أي شيء هذا الكلام القبيح؟ فقالت السيدة بدور: ويلك يا عجوز النحس أين معشوقي الشاب المليح صاحب الوجه المليح والعيون السود والحواجب المقرونة الذي كان بائتاً عندي من العشاء إلى قرب طلوع الفجر؟ فقالت: والله ما رأيت شاباً ولا غيره، فبالله يا سيدتي لا تمزحي هذا المزاح الخارج عن الحد فتروح أرواحنا وربما بلغ أباك هذا المزاح فمي يخلصنا من يده؟ فقالت الملكة بدور: إنه كان غلاماً بائتاً عندي في هذه الليلة وهو من أحسن الناس وجهاً، فقالت لها القهرمانة: سلامة عقلك ما كان أحد بائتاً عندك في هذه الليلة. فعند ذلك نظرت السيدة بدور إلى يدها فوجدت خاتم قمر الزمان في إصبعها ولم تجد خاتمها فقالت للقهرمانة: ويلك يا خائنة تكذبين علي وتقولين ما كان أحد بائتاً عندك وتحلفين بالله باطلاً، فقالت القهرمانة: والله ما كذبت عليك ولا حلفت باطلاً، فاغتاظت السيدة بدور وسحبت سيفاً كان عندها وضربت القهرمانة فقتلتها، فعند ذلك صاح الخدم والجواري والسراري عليها وراحوا إلى أبيها وأعلموه بحالها فأتى الملك إلى ابنتها السيدة بدور من وقته وساعته وقال لها: يا بنتي ما خبرك؟ فقالت يا أبي أين الشاب الذي كان نائماً بجانبي في هذه الليلة؟ وطار عقلها من رأسها وصارت تلتفت بعينيها يميناً وشمالاً ثم شقت ثوبها إلى ذيلها، فلما رأى أبوها تلك الفعال أمر الجواري والخدم أن يمسكوها فقبضوا عليها وقيدوها وجعلوا في رقبتها سلسلة من حديد وربطوها في الشباك الذي في القصر. هذا ما كان من أمر الملكة بدور.
و أما ما كان من أمر أبيها الملك الغيور فإنه لما رأى ما جرى من ابنته السيدة بدور ضاقت عليه الدنيا لأنه كان يحبها فلم يهن عليه أمرها، فعند ذلك أحضر المنجمين والحكماء وأصحاب الأقلام وقال لهم: من أبراً بنتي مما هي فيه زوجته بها وأعطيته نصف مملكتي ومن لم يبرئها ضربت عنقه ويعلق رأسه على باب القصر، ولم يزل يفعل ذلك إلى أن قطع من أجلها أربعين رأساً، فطلب سائر الحكماء فتوقفت جميع الناس عنها وعجز جميع الحكماء عن دوائها واشتكت قضيتها على أهل العلوم وأرباب الأقلام، ثم إن السيدة بدور لما زاد بها الوجد والغرام وأرباب الهيام أجرت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
غرامي فيك يا قمري غريمي
|
ذكرك في دجى ليلي نديمي
| |
أتيت وأضلعي فيها لـهـيب
|
يحاكي حره نار الجـحـيم
| |
بليت بفرط وجد واحـتـراق
|
عذابي منهما أضحى أليمـي
|
فلما فرغت السيدة بدور من إنشاد هذه الأشعار بكت حتى مرضت جفونها وتذبلت وجناته ثم إنها استمرت على هذا الحال ثلاث سنين وكان لها أخ من الرضاع يسمى مرزوان وكان سافر إلى أقصى البلاد وغاب عنها تلك المدة بطولها وكان يحبها محبة زائدة على محبة الأخوة فلما حضر دخل على والدته وسألها عن أخته السيدة بدور فقالت له: يا ولدي أختك حصل لها الجنون ومضى لها ثلاث سنين وفي رقبتها سلسلة من حديد وعجزت الأطباء عن دوائها، فلما سمع مرزوان هذا الكلام قال لها: لا بد من دخولي عليها لعلي أعرف ما بها وأقدر على دوائها، فلما سمعت كلامه قالت: لا بد من خولك عليها ولكن اصبر إلى غد حتى أتحيل في أمرك ثم إن أمه ذهبت إلى قصر السيدة بدور واجتمعت بالخادم الموكل بالباب وأهدت له هدية وقالت له: إن لي بنتاً قد تربت مع السيدة بدور وقد زوجتها ولما جرى لسيدتك ما جرى صار قلبها متعلقاً بها وأرجو من فضلك أن بنتي تأتي عندها ساعة لتنظرها ثم ترجع من حيث جاءت ولا يعلم بها أحد، فقال الخادم:لا يمكن ذلك إلا في الليل فبعد أن يأتي السلطان ينظر ابنته ويخرج ادخلي أنت وابنتك، فقبلت العجوز يد الخادم وخرجت إلى بيتها. فلما جاء وقت العشاء من الليلة القابلة قامت من وقتها وساعتها وأخذت ولدها مرزوان وألبسته بدلة من ثياب النساء وجعلت يده في يدها وأدخلته القصر، وما زالت تمشي حتى أوصلته إلى الخادم بعد انصراف السلطان من عند ابنته فلما رآها الخادم قام واقفاً وقال لها: ادخلي ولا تطيلي القعود فلما دخلت العجوز بولدها مرزوان رأى السيدة بدور في تلك الحالة فسلموا عليها بعد أنكشفت عنه أمه ثياب النساء فأخرج مرزوان الكتب التي معه وأوقد شمعة فنظرت إليه السيدة بدور فعرفته وقالت له: يا أخي أنت سافرت وانقطعت أخبارك عنا فقال لها: صحيح ولكن ردني الله باسلامة وأردت السفر ثانية فما ردني عنه إلا هذا الخبر الذي سمعته عنك فاحترق فؤادي عليك وجئت إليك لعلي أعرف داءك وأقدر على دوائك، فقالت له: يا أخي هل تحسب أن الذي اعتراني جنون، ثم أشارت إليه وأنشدت هذين البيتين:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
|
ما لذة العيش إلا للمـجـانـين
| |
ثم جننت فهاتوا من جننـت بـه
|
إن كان يشفي جنوني لا تلوموني
|
فعلم مرزوان أنها عاشقة فقال لها: أخبريني بقصتك وما اتفق لك لعل الله يطلعني على ما فيه خلاصك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والعشرون بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بدور قالت: يا أخي اسمع قصتي وذلك أنني تيقظت من منامي ليلة في الثلث الأخير من الليل وجلست فرأيت بجانبي شاباً احسن ما يكون من الشبان يكل عن وصفه اللسان كأنه غصن بان أو قضيب خيزران فظننت أن أبي هو الذي أمره بهذا الأمر ليمتحنني به لأنه راودني عن الزواج لما خطبني منه الملوك فأبيت فهذا الظن هو الذي منعني من أن أنبهه وخشيت إني إذا عانقته ربما يخبر أبي بذلك فلما أصبحت رأيت بيدي خاتمه عوضاً عن خاتمي. فهذه حكايتي وأنا يا أخي قد تعلق قلبي به من حن رؤيته ومن كثرة عشقي والغرام لم أذق طعم المنام وما لي شغل غير بكائي بالدموع وإنشاد الأشعار بالليل والنهار ثم أفضت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أبعد الحب لـذاتـي تـطـيب
|
وذاك الظبي مرتعه القـلـوب
| |
دم العشاق أهون مـا عـلـيه
|
وفيه مهجة الظـنـى تـذوب
| |
أغار عليه من نظري وفكـري
|
فمن بعضي على بعضي رقيب
| |
راجفان له ترمـي سـهـامـاً
|
فواتك في القلوب لنا تصـيب
| |
فهل لي أن أراه قبل مـوتـي
|
إذا ما كان في الدنيا نـصـيب
| |
وأكتم السـر فـينـيم دمـعـي
|
بما عندي ويعلمـه الـرقـيب
| |
قريب وصلـه مـنـي بـعـيد
|
بعـيد ذكـره مـنـي قـريب
|
ثم إن السيدة بدور قالت لمرزوان: انظر يا أخي ما الذي تعمل معي في الذي اعتراني فأطرق مرزوان رأسه إلى الأرض ساعة وهو يتعجب وما يدري ما يفعل ثم رفع رأسه وقال لها: جميع ما جرى لك صحيح وإن حكاية هذا الشاب أعيت فكري ولكن أدور جميع البلاد وأفتش على دوائك لعل الله يجعله على يدي فاصبري ولا تقلقي ثم إن مرزوان ودعها ودعا لها بالثبات وخرج من عندها ثم إن مرزوان تمشى إلى بيت والدته فنام تلك الليلة ولما أصبح الصباح تجهز للسفر فسافر ولم يزل مسافراً من مدينة إلى مدينة ومن جزيرة إلى جزيرة مدة شهر كامل ثم دخل مدينة يقال لها الطيرب واستنشق الأخبار من الناس لعله يجد دواء للملكة بدور وكان كلما يدخل في مدينة أو يمر بها يسمع أن الملكة بدور بنت الملك الغيور قد حصل لها جنون ولم يزل يستنشق الأخبار حتى وصل إلى مدينة الطيرب فسمع إن قمر الزمان ابن الملك شهرمان مريض وأنه اعتراه وسواس وجنون.
فلما سمع مرزوان بخبره سأل بعض أهالي تلك المدينة عن بلاده ومحل تخته فقالوا له جزائر خالدات وبيننا وبينها مسيرة شهر كامل في البحر وأما في البر فستة أشهر، فنزل مرزوان في مركب إلى جزائر خالدات وكانت مركب مجهزة للسفر وطاب لها الريح مدة شهر فبانت لهم المدينة ولما أشرفوا عليها ولم يبق لهم إلا الوصول إلى الساحل خرجت عليهم ريح عاصف فرمى الرية ووقعت القلوع في البحرو انقلب المركب بجميع ما فيه.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان جذبته قوة التيار جذبة حتى أوصلته تحت قصر الملك الذي فيه قمر الزمان وكان بالأمر المقدر قد اجتمع الأمراء والوزراء عنده للخدمة والملك شهرمان جالس ورأس ولده في حجره وخادم يهش عليه. وكان قمر الزمان مضى عليه يومان وهو لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم وصار الوزير واقفاً عند رجليه قريب من الشباك المطل على البحر فرفع الوزير بصره فرأى مرزوان قد أشرف على الهلاك من التيار وبقي على آخر نفس فرق قلب الوزير إليه فتقرب من السلطان ومد رأسه إليه وقال له: أستأذنك في أن أنزل إلى ساحة القصر وأفتح بابها لأنقذ إنساناً قد أشرف على الغرق وأطلعه من الضيق إلى الفرج لعل الله بسبب ذلك يخلص ولدك مما هو عليه.
فقال السلطان: كل ما جرى على ولدي بسببك وربما أنك إذا طلعت هذا الغريب يطلع على أحوالنا وينظر إلى ولدي وخرج يتحدث مع أحد بأسرارنا لأضربن رقبتك قبله لأنك أيها الوزير سبب ما جرى لنا أولاً وآخراً فافعل ما بدا لك، فنهض الوزير وفتح باب الساحة ونزل في الممشاة عشرين خطوة، ثم خرج إلى البحر فرأى مرزوان مشرفاً على الموت فمد الوزير يده إليه وأمسكه من شعر رأسه وجذبه منه عليه حتى ردت روحه إليه ثم نزع عنه ثيابه وألبسه غيرها وعممه بعمامة من عمائم غلمانه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما فعل مع مرزوان ما فعل، وكيف قال إني كنت سبباً لنجاتك فلا تكن سبباً لموتي وموتك، فقال مرزوان: وكيف ذلك؟ قال الوزير: لأنك في هذه الساعة تطلع وتشق بين أمراء ووزراء والكل ساكتون لا يتكلمون من أجل قمر الزمان ابن السلطان، فلما سمع مرزوان ذكر قمر الزمان عرفه لأنه كان يسمع بحديثه في البلاد، فقال مرزوان: ومن قمر الزمان؟ فقال الوزير: هو ابن السلطان شهرمان وهو ضعيف ملقى على الفراش لا يقر له قرار ولا يعرف ليلاً ولا نهاراً وكاد أن يفارق الحياة من نجول جسمه ويصير من الأموات فنهاره لهيب وليله في تعذيب وقد يئسنا من حياته وأيقنا بوفاته وإياك أن تطيل النظر إلى غير الموضع الذي تحط فيه رجلك وإلا تروح روحك وروحي، فقال: بالله أخبرني عن هذا الشاب الذي وصفته لي وما سبب هذا الأمر الذي هو فيه؟ فقال له الوزير: لا أعلم له سبباً إلا أن والده من مدة ثلاث سنين كان يراوده عن أمر الزواج وهو يأبى فأصبح يزعم أنه كان نائماً فرأى بجنبه صبية بارعة الجمال وجمالها يحير العقول ويعجز عنه الوصف وذكر لنا أنه نزع خاتمها من إصبعها ولبسه وألبسها خاتمه ونحن لا نعرف باطن هذه القضية، فبالله يالولدي اطلع معي القصر ولا تنظر إلى ابن الملك ثم بعد ذلك روح إلى حال سبيل فإن السلطان قلبه ملآن عليه غيظاً.
فقال مرزوان في نفسه: والله إن هذا هو المطلوب ثم طلع خلف الوزير إلى أن وصل إلى القصر، ثم جلس الوزير تحت رجلي قمر الزمان وأما مرزوان فإنه لم يكن له دأب إلا أنه مشى حتى وقف قدام قمر الزمان ونظر إليه فمات الوزير في جلده وصار ينظر إلى مرزوان ويغمزه ليروح إلى حال سبيله ومرزوان يتغافل وينظر لإلى قمر الزمان وعلم أنه هو المطلوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان قال: سبحان الله الذي جعل قده مثل قدها ولونه مثل لونها وخده مثل خدها ففتح قمر الزمان عينيه وصغى بأذنيه فلما رآه مرزوان صاغياً إلى ما يلقيه من الكلمات أنشد هذه الأبيات:
أراك طروباً ذا شـجـى وتـرنـم
|
تميل إلى ذكر المحاسن بـالـفـم
| |
أصابك عشق أم رميت بـسـهـم
|
فما هـذه الأسـيجة مـن رمـي
| |
ألا فاسقني كاسات خمر وإن لـي
|
بذكر سليمى والرباب وتـنـعـم
| |
أغار على أعطافها من ثـيابـهـا
|
إذا لبستها فوق جسـم مـنـعـم
| |
وأحسد كاسات تقبـل ثـغـرهـا
|
إذا وضعت اللـثـم فـي الـفـم
| |
فلا تحسبوا أني قتلـت بـصـارم
|
ولكن لحاظ قد رمتني بـأسـهـم
| |
ولما تلاقينـا وجـدت بـنـانـهـا
|
مخضبة تحكي عصـارة عـنـدم
| |
فقالت وألقت في الحـشـا لاعـج
|
الهوى مقالة من للحب لم يتكـلـم
| |
رويدك ما هذا خضاب خضبـتـه
|
فلاتك بالبهتان والزور متهـمـي
| |
ولكننـي لـمـا رأيتـك نـائمـاً
|
وقد كشفت كفي وزندي ومعصمي
| |
بكيت دماً يوم النوى فمسـحـتـه
|
بكفي فابتلت بنانـي مـن دمـي
| |
فلو قبل مبكاه بـكـيت صـبـابة
|
لكنت شفيت النفس قبل الـتـنـدم
| |
ولكن بكت قبلي فهيج لي البـكـا
|
بكاها فقلت الفضل للـمـتـقـدم
| |
فلا تعذلوني في هواهـا لأنـنـي
|
وحق الهوى فيها كثير الـتـألـم
| |
بكيت على زين الحسن وجهـهـا
|
ليس لها مثـل يعـرب وأعـجـم
| |
لها علم لقمـان وصـورة يوسـف
|
ونـغـمة داود وعـفة مــريم
| |
ولي حزن يعقوب وحسرة يونـس
|
وبـلــوة أيوب وقـــصة آدم
| |
فلا تقتلوها إن قلت بـهـا حـوى
|
بلى فاسألوها كيف حل لها دمـي
|
فلما أنشد مرزوان هذا الشعر نزل عل قمر الزمان برداً وسلاما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أشار إلى السلطان بيده: دع هذا الشاب يجلس في جانبي، فلما سمع السلطان من ولده قمر الزمان هذا الكلام هذا الكلام فرح فرحاً شديداً، بعد أن غضب على الشاب وأضمر في نفسه أنه يرمي رقبته، ثم قام الملك وأجلس مرزوان إلى جانب ولده وأقبل عليه وقال له: من أي البلاد أنت؟ قال من الجزائر الجوانية من بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور، والسبعة قصور. فقال له الملك شهرمان: عسى أن يكون الفرج على يديك لولدي قمر الزمان، ثم إن مرزوان أقبل على قمر الزمان وقال له في أذنه: ثبت قلبك وطب نفساً وقر عيناً فإن التي صرت من أجلها هكذا لا تسأل عما هي فيه من أجلك ولكنك كتمت أمرك فضعفت، وأما هي فإنها أظهرت ما بها فجئت وهي الآن مسجونة بأسوأ حال وفي رقبتها غل من حديد وإن شاء الله تعالى يكون دوائكما على يدي.
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام ردت روحه إليه واستفاق وأشار إلى الملك والده أن يجلس ففرح فرحاً زائداً وأجلس ولده، ثم أخرج جميع الوزراء والأمراء واتكأ قمر الزمان بين مخدتين وأمر الملك أن يطيبوا القصر بالزعفران ثم أمر بزينة المدينة وقال لمرزوان: والله يا ولدي إن هذه طلعة مباركة ثم أكرمه غاية الإكرام وطلب لمرزوان الطعام فقدموا له فأكل وأكل معه قمر الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان شهرمان بات تلك الليلة عندهما من شدة فرحته بشفاء ولده فلما أصبح الصباح صار مرزوان يحدث قمر الزمان بالقصة وقال له: اعلم أنني أعرف التي اجتمعت بها واسمها بدور بنت الملك الغيور، ثم حدثه بما جرى للسيدة بدور من الأول إلى الآخر وأخبره بفرط محبتها له وقال له: جميع ما جرى لك مع والدك جرى لها مع والده وأنت من غير شك حبيبها فثبت قلبك وقوي عزيمتك فهاأنا أوصلك إليها وأجمع بينك وبينها وأعمل معكما كما قال بعض الشعراء:
إذا الحبيب صد عن صبـه
|
ولم يزل في فرط أعراض
| |
ألفت وصلاً بين شخصيكما
|
كأنني مسمار مـقـراض
|
و لم يزل مرزوان يشجع قمر الزمان حتى أكل الطعام وشرب الشراب وردت روحه إليه ونقه مما كان فيه ولم يزل مرزوان يحدثه وينادمه ويسليه وينشد له الأشعار حتى دخل الحمام وأمر والده بزينة المدينة فرحاً بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان خلع الخلعة وتصدق وأطلق من في الحبوس ثم إن مرزوان قال لقمر الزمان: اعلم أنني ما حئت من عند السيدة بدور إلا لهذا الأمر وهو سبب سفري لأجل أن أخلصها مما هي فيه وما بقي لنا إلا الحيلة في رواحنا إليها لأن والدك لا يسمح لك بالذهاب، ولازم أن تخرج إلى الصيفي البرية ومعك خرجاً ملآناً من المال، واركب جواداً من الخيل وخذ معك جنيباً وأنا الآخر مثلك، وقل لوالدك إني أريد أن أتفرج في البرية وأتصيد وأنظر في الفضاء وأبيت هنا ليلة واحدة فلا تشغل قلبك علي بشيء، ففرح قمر الزمان واستأذنه في الخروج إلى الصيد وقال له الكلام الذي أوصاه به مرزوان فأذن له والده في الخروج إلى الصيد وقال له: لا تبت غير ليلة واحدة وفي غد تحضر فإنك تعلم أنه ما يطيب لي عيش إلا بك وإنني ما صدقت أنك خلصت مما كنت فيه، ثم إن الملك شهرمان أنشد هذين البيتين:
ولو أنني أصبحت في كل نعـمة
|
وكانت لي الدنيا وملك الأكاسـرة
| |
لما وازنت عندي جناح بعـوضة
|
وإذا لم تكن عيني لشخصك ناظرة
|
ثم إن الملك جهز ولده قمر الزمان هو مرزوان وأمر أن يهيأ لهما ستة من الخيل وهجين برسم المال، وجمل يحمل الماء والزاد ومنع قمر الزمان أن يخرج معه أحد في خدمته فودعه أبوه وضمه إلى صدره وقال له: سألتك بالله لا تغيب عني إلا ليلة واحدة وحرام علي المنا فيها وأنشد:
وصالك عندي ألذ نـعـيم
|
وصبري عنك أضر ألـيم
| |
فديتك إن كان ذنب الهـوى
|
إليك فذنبي أجل عـظـيم
| |
أعندك مثلي نار الـجـوى
|
فأصلى بذاك عذاب الجحيم
|
ثم خرج قمر الزمان ومرزوان وركبا فرسين ومعهما الهجين والجمل عليه الماء والزاد واستقبلا البر. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان لما استقبلا البر سارا أول يوم إلى المساء ثم نزلا وأكلا وشربا وأطهما دوابهما واستراحا ساعة ثم ركبا وما زالا سائرين مدة ثلاثة أيام وفي رابع يوم بان لهما مكان متسع فيه غاب فنزلا فيه ثم أخذ مرزوان جملاً وفرساً وذبحهما وقطع لحمهما قطعاً ونحر عظمهما وأخذ من قمر الزمان قميصه ولباسه وقطعهما ولونهما بدم الفرس وأخذ ملوطة قمر الزمان ومزقها ولوثها بالدم ورماها في مفرق الطريق ثم أكلا وشربا وسافرا فسأله قمر الزمان عما فعله فقال مرزوان: اعلم أم والدك الملك شهرمان إذا غبت عنه ليلة ولم تحضر ثاني ليلة يركب ويسافر في أثرنا إلى أن يصل إلى هذا الدم الذي فعلته ويرى قماشك مقطعاً وعليه الدم فيظن في نفسه أنه جرى لك شيء من قطاع الطريق أو وحش البر فينقطع رجاؤه منك ويرجع إلى المدينة ونبلغ بهذه الحيلة ما نريد، فقال قمر الزمان: نعم ما فعلت ثم سارا أياماً وليالي وكل ذلك وقمر الزمان باكي العين إلى أن استبشر بقرب الديار أنشد هذه الأشعار:
أتجفو محباً مـا سـلا عـنـك سـاعة
|
وتزهد فيه بعد مـا كـنـت راغـبـا
| |
حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى
|
وعوقبت بالهجران إن كنـت كـاذبـا
| |
وما كان لي ذنب فاستوجب الـجـفـا
|
وإن كان لي ذنب فقـد جـئت تـائبـا
| |
ومن عـجـب الأيام أنـك هـاجـري
|
وما زالت الأنام تبـدي الـعـجـائبـا
|
فلما فرغ قمر الزمان من شعره بانت له جزائر الملك الغيور ففرح قمر الزمان فرحاً شديداً وشكر مرزوان على فعله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان دخلا المدينة وأنزله مرزوان في خان واستراحا ثلاثة أيام من السفر وبعد ذلك دخل قمر الزمان الحمام وألبسه لبس التجار وعمل له تخت رمل من ذهب وعمل له عدة وعمل له اصطرلاباً من الذهب ثم قال له مرزوان: قم يا مولاي وقف تحت قصر الملك وناد: أنا الحاسب الكاتب المنجم فأين الطالب؟ فإن الملك إذا سمعك يرسل خلفك ويدخل بك على ابنته محبوبتك وهي حين تراك يزول ما بها من الجنون ويفرح أبوها بسلامتك ويزوجها بك ويقاسمك في ملكه لأنه شرط على نفسه هذا الشرط، فقبل قمر الزمان ما أشار به مرزوان وخرج من الخان وهو لابس البدلة وأخذ معه العدة التي ذكرناها ومشى إلى أن وقف تحت قصر الملك الغيور ونادى: أنا الكاتب الحاسب المنجم أكتب الكتاب وأحكم الحجاب وأحسب الحساب بأقلام المطالب فأين الطالب؟ فلما سمع أهل المدينة هذا الكلام وكانوا مدة من الزمان ما رأوا حاسباً ولا مترجماً وقفوا حوله وتأملوه فتعجبوا من حسن صورته ورونق سبابه وقالوا له: بالله عليك يا مولانا لا تفعل بنفسك هذه الفعال طمعاً في زواج بنت الملك الغيور وانظر بعينيك إلى هذه الرؤوس المعلقة فإن أصحابهم كلهم قتلوا من أجل هذا الحال فآل بهم الطمع إلى الوبال، فلم يلتفت قمر الزمان إلى كلامهم بل رفع صوته ونادى: أنا كاتب حاسب أقرب المطالب للطالب فتداخل عليه الناس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان نهته الناس فلم يسمع كلامهم فاغتاظوا جميعاً وقالوا له: ما أنت إلا شاب مكابر أحمق، ارحم شبابك وصغر سنك وحسنك وجمالك، فصاح قمر الزمان وقال: أنا المنجم والحاسب فهل من طالب؟ فبينما الناس تنهى قمر الزمان عن هذه الحالة إذ سمع الملك الغيور الصياح وضجة الناس فقال للوزير: انزل فائتنا بذا المنجم، فنزل الوزير وأخذ قمر الزمان فلما دخل على الملك قبل الأرض بين يديه وأنشد هذين البيتين:
ثمانية في المجد خرت جميعهـا
|
فلا زال خداماً بهن لك الدهـر
| |
يتينك والتقوى ومجدك والـنـدى
|
ولفظك والمعنى وعزك والنصر
|
فلما نظر الملك الغيور إليه أجلسه إلى جانبه وأقبل عليه وقال له: يا ولدي لا تجعل نفشك منجماً ولا تدخل على شرطي فإني ألزمت نفسي أن كل من دخل على بنتي ولم يبرئها مما أصاب بها ضربت عنقه وكل من أبرأها زوجته لها فلا يغرك حسنك وجمالك وقدك واعتدالك والله والله إن لم تبرئها لأضربن عنقك، فقال قمر الزمان: قبلت منك هذا الشرط فأشهد عليه الملك الغيور القضاة وسلمه إلى الخدم وقال له: أوصل هذا إلى السيدة بدور فأخذه الخادم من يده ومشى به إلى الدهليز فصار قمر الزمان يسابقه وصار الخادم يقول له: ويلك لا تستعجل على هلاك نفسك فوالله ما رأيت منجماً يستعجل على هلاك نفسه إلا أنت ولكنك لم تعرف أي شيء قدامك على الدواهي فأعرض قمر الزمان بوجهه عن الخادم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أنشد هذه الأبيات:
أنا عارف بصفات حسنك جاهل
|
متحير لـم أدر مـا أنـا قـائل
| |
إن قلت شمساً كأن حسنك لم يغب
|
عني وعهدي بالشموس أوافـل
| |
كملت محاسنك التي في وصفها
|
عجز البليغ وحار فيه الـقـائل
|
ثم إن الخادم أوقف قمر الزمان خلف الستارة التي على الباب فقال له قمر الزمان: أي الحالتين أحب إليك كوني أداوي سيدتك وأبرئها من هنا أو أدخل إليها وأبرئها من داخل الستارة؟ فتعجب الخادم من كلامه وقال له: إن أبرأتها من هنا كان ذلك زيادة في فضلك فعند ذلك جلس قمر الزمان خلف الستارة وأطلع الدواة والقلم وكتب في ورقة هذه الكلمات: من يروح به الجفاء فدواؤه الوفاء والبلاء لمن يئس من حياته وأيقن بحلول وفاته وما لقلبه الحزين من مسعف ولا معين وما لطرفه الساهر على الهم ناصر، فنهاره لهيب وليله تعذيب وقد انبرى جسمه من كثرة النحول ولم يأته من حبيبه رسول، ثم كتب هذه الأبيات:
كتبت ولي قلب بذكرك مـولـع
|
وجفن قريح من دمـائي يدمـع
| |
وجسم كساه لاعج الشوق والأسى
|
قميص نحول فهو فيه مضعضع
| |
شكوت الهوى لما أضر بي الهوى
|
ولم يبق عندي للتصبر موضـع
| |
ليك فجودي وارحمي وتعطفـي
|
فإن فؤادي بالهـوى يتـقـطـع
|
ثم كتب تحت الشعر هذه السجعات: شفاء القلوب لقاء المحبوب، من جفاه حبيبه فالله طبيبه، من خان منكم ومنالاً نال ما يتمنى، ولا أظرف من المحب الوافي إلى الحبيب الجافي، ثم كتب في الإمضاء: من الهائم الولهان العاشق الحيران من أقلقه الشوق والغرام سير الوجد والهيام قمر الزمان ابن الملك شهرمان إلى فريدة الزمان ونخبة الحور الحسان السيدة بدور بنت الملك الغيور، اعلمي أنني في ليلي سهران وفي نهاري حيران زائد النحول والأسقام والعشق والغرام كثير الزفرات غزير العبرات أسير الهوى قتيل الجوى، غريم الغرام، نديم السقام، فأنا السهران الذي لا تهجع مقلته والميتم الذي لا تهجع مقلته والمتي الذي لا ترفأ عبرته، فنار قلبي لا تطفأ ولهيب شوقي لا يخفى، ثم كتب في حاشية الكتاب هذا البيت المستطاب:
سلام من خزائن لطف ربـي
|
على من عندها روحي وقلبي
|
ثم كتب أيضاً:
أرسلت خاتمك الذي أستبـدلـه
|
يوم التواصل فارسلي لي خاتمي
|
وكان وضع خاتم السيدة بدور في طي الكتاب ثناول الكتاب للخادم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما وضع الخاتم في الورقة ناولها للخادم فأخذها ودخل بها إلى السيدة بدور فأختها من يد الخادم وفتحتها فوجدت خاتمها بعينه ثم قرأت الورقة، فلما عرفت المقصود علمت أن معشوقها قمر الزمان وأنه هو الواقف خلف الستارة فطار عقلها من الفرح واتسع صدرها وانشرح، ومن فرط المسرات أنشدن هذه الأبيات:
ولقد ندمت على تفرق شملنـا
|
دهرأ وفاض الدمع من أجفاني
| |
ونذرت إن عاد الزمان يلمـنـا
|
لا عدت أذكر فرقة بلسـانـي
| |
هجم السرور علي حتـى أنـه
|
من فرط ما سرني أبكـانـي
| |
يا عين صار الدمـع سـجـية
|
تبكين في فرح وفي أحـزان
|
فلما فرغت السيدة بدور من شعرها قامت من وقتها وصلبت رجليها في الحائط واتكأت بقوتها على الغل الحديد فقطعته من رقبتها وقطعت السلاسل وخرجت من خلف الستارة ورمت روحها على قمر الزمان وقبلته في فمه مثل زق الحمام وعانقته م شدة ما بها من الغرام وقالت له: يا سيدي هل هذا يقظة أو منام وقد من الله علينا بجمع شملنا، ثم حمدت الله وشكرته على جمع شملها بعد اليأس، فلما رآها الخادم على تلك الحالة ذهب يجري حتى وصل إلى الملك الغيور فقبل الأرض بين يديه وقال له: يا مولاي اعلم أن هذا المنجم أعلم المنجمين كلهم فإنه داوى ابنتك وهو واقف خلف الستارة ولم يدخل عليها، فقال الملك للخادم: أصحيح هذا الخبر؟ فقال الخادم يا سيدي قم وانظر كيف قطعت السلاسل وخرجت للمنجك تقبله وتعانقه، فعند ذلك قام الملك الغيور ودخل على ابنته فلما رأته نهضت قائمة وغطت رأسها وأنشدت هذين البيتين:
لا أحب السواك من أجل أني
|
إن ذكرت السواك قلت سواكا
| |
وأحب الأراك من أجل أنـي
|
إن ذكرت الأراك قلت أراك
|
ففرح أبوها بسلامتها وقبلها بين عينيها لأنه كان يحبها محبة عظيمة، وأقبل الملك الغيور على قمر الزمان وسأله عن حاله وقال له: من أي البلاد أنت؟ فأخبره قمر الزمان بشأنه وأعلمه أن والده الملك شهرمان، ثم إن قمر الزمان قص عليه القصة من أولها إلى آخرها وأخبره بجميع ما اتفق له مع السيدة بدور وكيف أخذ الخاتم من إصبعها وألبسها خاتمه فتعجب الملك الغيور من ذلك وقال: إن حكايتكما يجب أن تؤرخ في الكتب وتقرأ بعدكما جيلاً بعد جيل، ثم إن الملك الغيور أحضر القضاة والشهود من وقته وكتب كتاب السيدة بدور على قمر الزمان وأمر بتزيين المدينة سبعة أيام، ثم مدوا السماط والأطعمة وزينت المدينة وجميع العساكر وأقبلت البشائر ودخل قمر الزمان على السيدة بدور وفرح بعافيتها وزواجها وحمد الله الذي رماها في حب شاب مليح من أبناء الملوك ثم جلوها عليه وكانا يشبهان بعضهما في الحسن والجمال والظرف والدلال ونام قمر الزمان عندها الليلة وبلغ أربه منها وتمتعت هي بحسنه وجماله وتعانقا إلى الصباح، وفي اليوم الثاني عمل الملك وليمة وجمع أهل الجزائر الجوانية والجزائر البرانية وقدم لهم الأسمطة وامتدت الموائد مدة شهر كامل، وبعد ذلك تفكر قمر الزمان أباه ورآه في المنام يقول له: يا ولدي أهكذا تفعل معي هذه الفعال وأنشده في المنام هذين البيتين:
لقد راعني بدر الدجى بـصـدوده
|
ووكل أجفاني برعي كـواكـبـه
| |
فياكبدي مهلاً عـسـاه يعـود لـي
|
ويا مهجتي صبراً على ما كواك به
|
ثم إن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأعلم زوجته بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأخبر السيدة بدور بذلك فدخلت هي وإياه على والدها وأعلماه واستأذناه في السفر فقالت السيدة بدور: يا والدي لا أصبر على فراقه فقال لها والدها: سافري معه وأذن لها بالإقامة معه سنة كاملة وبعد السنة تجيء تزور والدها في كل عام مرة، فقبلت يد أبيها وكذلك قمر الزمان، ثم شرع الملك الغيور في تجهيز ابنته هي وزوجها وهيأ لهما الخيول والهجان وأخرج ابنته وحمل لهما البغال والهجان واخرج لهما ما يحتاجان إليه في السفر.
و في يوم المسير ودع الملك الغيور قمر الزمان وخلع عليه خلعة سنية من الذهب مرصعة بالجواهر وقدم له خزنة مال وأوصاه على ابنته، ثم خرج معهما إلى طرف الجزائر وبعد ذلك ودع قمر الزمان، ثم دخل على ابنته وهي في المحفة وصار يعانقها ويبكي وأنشد هذين البيتين:
يا طالباً للفراق صبـرا
|
فمنعة العاشق العنـاق
| |
مهلاً فطبع الزمان غدر
|
وآخر العشرة الفـراق
|
ثم خرج من عند ابنته وأتى إلى زوجته قمر الزمان فصار يودعه ويقبله ثم فارقهما وعاد إلى جزائره بعسكره بعد أن أمرهما بالرحيل فسار قمر الزمان هو وزوجته السيدة بدور ومن معهم من الأتباع أول يوم والثاني والثالث والرابع ولم يزالوا مسافرين مدو شهر، ثم نزلوا في مرج واسع كثير الكلأ وضربوا خيامهم فيه وأكلوا وشربوا واستراحوا ونامت السيدة بدور فدخل عليها قمر الزمان فوجدها وفوق بدنها قميص مشمشي من الحرير يبين منه كل شيء وفوق رأسها كوفية من الحرير مرصعة بالجواهر وقد رفع الهواء قميصها فطلع فوق سرتها عند نهودها فبان بطنها أبيض من الثلج وكل عكسة من عكس طياته تسع اوقية من دهن البان فزاد بها محبة وهياماً وأنشد هذن البيتين:
لو قيل لي وزفير الحـر مـتـقـد
|
والنار في القلب والأحشاء تضطرم
| |
أهم تريد وتهوى أن تشـاهـدهـم
|
أو شربة من زلال الماء قلت هـم
|
فحط قمر الزمان يده في تكة لباسها فجذبها وحلها لما اشتهاها خاطره فرأى فصاً أحمر مثل العندم مربوطاً على التكة وعليه أسماء منقوشة سطرين بكتابة لا تقرأ فتعجب قمر الزمان من ذلك الفص وقال في نفسه: لولا أن لهذا الفص أمر عظيم عندها ما ربطته على تكة لباسها وما خبأته في أعز مكان عندها حتى لا تفارقه، فماذا تصنع بهذا السر الذي هو فيه؟ ثم أخذه وخرج من الخيمة ليبصره في النور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أخذ الفص ليبصره في النور صار يتأمل فيه وإذا بطائر انقض عليه وخطفه من يده وطار به وحط على الأرض، فخاف قمر الزمان على الفص وجرى خلف الطائر، وصار الطائر يجري على قدر جري قمر الزمان خلفه من واد إلى واد ومن تل إلى تل إلى أن دخل الليل وتغلس الظلام فنام الطائر على شجرة عالية فوقف قمر الزمان تحتها وصار باهتاً وقد ضعف من الجوع والتعب وظن أنه هالك، وأراد أن يرجع فما علاف الموضع الذي جاء منه. وهجم الظلام فقال: لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، ثم نام تحت الشجرة التي فوقها الطائر إلى الصباح ثم انتبه من نومه فوجد الطائر قد انتبه وطار من فوق الشجرة فمشى قمر الزمان خلفه وصار ذلك الطائر يطير قليلاً بقدر مشي قمر الزمان وقال: يا لله العجب أن هذا الطائر كان بالأمس يطير بقدر جريتي وفي هذا اليوم علم اني أصبحت تعباناً لا أقدر على الجري فصار يطير على قدر مشيتي، إن هذا عجيب، ولكن لا بد أن أتبع هذا الطائر فإما أن يقودني إلى حياتي أو مماتي، فأنا أتبعه أينما يتوجه لأنه على كل حال لا يقيم إلا في البلاد العمار.
ثم إن قمر الزمان جعل يمشي تحت الطائر والطائر يبيت في كل ليلة على شجرة ولم يزل متابعه مدة عشرة أيام وقمر الزمان يتقوت من نبات الأرض ويشب من الأنهار. وبعد العشرة أيام أشرف على مدينة عامرة فمر الطائر في تلك المدينة مثل لمح البصر وغاب عن قمر الزمان وقال: الحمد لله الذي سلمني حتى وصلت إلى هذه المدينة، ثم جلس عند الماء وغسل يديه ورجليه ووجهه واستراح ساعة وتذكر ما كان فيه من الراحة، ونظر إلى ما هو فيه من الغربة والجوع والتعب، فأنشد يقول:
أخفيت ما ألقاه منه وقـد ظـهـر
|
والنوم من عيني تبذل بالـسـهـر
| |
ناديت لما أوهنت قلبي الـفـكـر
|
يا دهر يا دهر لا تبقي علي ولاتذر
| |
ها مهجتي بين المشقة والخطـر
| ||
لو كان سلطان المحبة منصفي
|
ما كان نومي من عيوني قد نفـي
| |
يا سادتي رفقاً بـصـب مـدنـف
|
وتعطفوا لعـزيز قـوم ذل فـي
| |
شرع الهوى وغني قوم وافتقـر
| ||
لج العواذل فيك ما طاوعتهم
|
وسددت كل مسامعي وعصيتـهـم
| |
قالوا عشقت مهفهفاً فأجـبـتـهـم
|
اخترته من بينهـم وتـركـتـهـم
| |
كفوا إذا وقع القضا عمي البصر
|
ثم إن قمر الزمان لما فرغ من شعره واستراح دخل باب المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
يتبع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق