Ads 468x60px

اشهار

الأربعاء، 2 يوليو 2014

الف ليلة و ليلة 7 حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان (2\2)



حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان (2\2)
تتمة ...
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان دخل باب المدينة وهو لا يعلمأين يتوجه فمشى في المدينة جميعها وقد كان دخل من البر، ولم يزل يمشي إلى أن خرج من باب البحر فلم يقابله أحد من أهلها وكانت مدينة على جانب البحر، ثم إنه بعد أن خرج من باب البحر مشى ولم يزل ماشياً حتى وصل إلى بساتين المدينة وشق بين الأشجار فأتى إلى بستان ووقف على بابه فخرج إليه الخولي ورحب به وقال: الحمد لله الذي أتى بك سالماً من أهل هذه المدينة، فادخل هذا البستان سريعاً قبل أن يراك احد من أهلها.
فعند ذلك دخل قمر الزمان ذلك البستان وهو ذاهل العقل وقال للخولي ما حكاية أهل هذه المدينة وما خبرهم فقال له اعلم أن أهل هذه المدينة كلهم مجوس فبالله عليك كيف وصلت إلى هذا المكان وما سبب دخولك في بلادنا، فعند ذلك أخبره قمر الزمان بجميع ما جرى له فتعجب الخولي من ذلك غاية العجب وقال له: اعلم يا ولدي أن بلاد الإسلام بعيدة من هنا فبيننا وبينها أربعة أشهر في البحر وأما في البر فسنة كاملة وإن عندنا مركباً يقلع وتسافر كل سنة ببضائع إلى أول بلاد الإسلام وتسير من هنا إلى بحر الأبنوس ومنه إلى جزائر خالدات وملكها يقال له السلطان شهرمان.
فعند ذلك تفكر قمر الزمان في نفسه ساعة زمانية وعلم أنه من الأوفق له قعوده في البستان عند الخولي والعمل عنده مرابعاً، فقال للخولي: هل تقبلني عندك مرابعاً في هذا البستان فقال له الخولي سمعاً وطاعة، ثم علمه تحويل الماء بين الأشجار فصار قمر الزمان يحول الماء ويقطع الحشيش بالفأس وألبسه الخولي بشتاً قصيراً أزرق يصل إلى ركبته وصار يسقي الأشجار ويبكي بالدموع الغزار وينشد الأشعار بالليل والنهار في معشوقته بدور فمن جملة ذلك هذه الأبيات:
لنا عندكـم وعـد فـهـلا وفـيتـم

وقلتم لنا قولاً فـهـلا فـعـلـتـم
قهرنا على حكم الغـرام ونـمـتـم

ولـيس سـواء سـاهـرون ونـوم
وكنا عهدنا أننـا نـكـتـم الـهـوى

فأغراكم الواشـي وقـال قـلـتـم
فيا أيها الأحبـاب فـي الـسـخـط

والرضا على كل حال أنتم القصد أنتم
ولي عند بعض الناس قلب مـعـذب

فيا ليته يرثـي لـحـالـي ويرحـم
وماك ل عين مثل عـينـي قـريحة

ولاكل قلب مثل قـلـبـي مـتـيم
ظالمتم وقلتم إنمـا الـحـب ظـالـم

صدقتم كذا كان الحديث صـدقـتـم
سلوا مغرماً لا ينقض الدهر عـهـده

ولو كان في أحشائه النار تـضـرم
إذا كان خصمي في الصبابة حاكمـي

لمن أشتكي خصمي لمن أتـظـلـم
ولولا افتقاري في الهوى وصبابتـي

لما كان لي في العشق قلب مـتـيم
هذا ما كان من قمر الزمان واما ما كان من أمر زوجته السيدة بدور بنت الملك الغيور فإنها لما استيقظت من نومها طلبت زوجها قمر الزمان فلم تجده ورأت سروالها محلولاً فافتقدت العقد فوجدتها محلولة والفص معدوماً فقالت في نفسها يا للعجب أين معشوقي كأنه أخذ الفص وراح وهو لا يعلم السر الذي هو فيه فيا ترى أين راح ولكن لا بد له من أمر عجيب اقتضى رواحه فإنه لا يقدر أن يفارقني ساعة فلعن الله الفص ولعن ساعته ثم إن السيدة بدور تفكرت وقالت في نفسها إن خرجت إلى الحاشية وأعلمتهم بفقد زوجي يطمعوا في ولكن لا بد من الحيلة.
ثم إنها لبست ثياب قمر الزمان ولبست عمامة كعمامته وضربت لها لثاماً وحطت في محفتها جارية وخرجت من خيمتها وصرخت على الغلمان فقدموا لها الجواد فركبت وأمرت بشد الأحمال فشدوا الأحمال وسافروا وأخفت أمرها لأنها كانت تشبه قمر الزمان فما شك أحد أنها قمر الزمان بعينه وما زالت مسافرة هي وأتباعها أياماً وليالي حتى أشرفت على مدينة مطلة على البحر المالح فنزلت بظاهرها وضربت خيامها في ذلك المكان لأجل الإستراحة ثم سألت عن هذه المدينة فقيل لها هذه مدينة الآبنوس وملكها الملك أرمانوس وله بنت اسمها حياة النفوس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما نزلت بظاهر مدينة الآبنوس لأحل الإستراحة أرسل الملك أرمانوس رسولاً من عنده يكشف له خبر الملك النازل بظاهر المدينة فلما وصل إليهم الرسول سألهم فأخبروه بأن هذا ابن الملك تائه عن الطريق وهو قاصد جزائر خالدات الملك شهرمان فعاد الرسول إلى الملك أرمانوس وأخبره بالخبر فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام نزل هو وأرباب دولته إلى مقابلته فلما قدم على الخيام ترجلت السيدة بدور وترجل الملك أرمانوس وسلما على بعضهما وأخذها ودخل بها إلى مدينته وطلع بها إلى قصره وأمر بمد السماط وموائد الأطعمة وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة فقامت هناك ثلاثة أيام وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام وأسفرت عن وجه كأنه البدر عند التمام فافتتن بها العالم وتهتكت بها الخلق عند رؤيتها.
فعند ذلك أقبل الملك أرمانوس عليها وهي لابسة حلة من الحرير مطرزة بالذهب المرصع بالجواهر وقال لها يا ولدي اعلم أني بقيت شيخاً هرماً وعمري ما رزقت ولداً غير بنت وهي على شكلك وقدك في الحسن والجمال وعجزت عن الملك فهل لك يا ولدي أن تقيم بأرضي وتسكن بلادي وأزوجك ابنتي وأعطيك مملكتي.
فأطرقت السيدة بدور رأسها وعرق جبينها من الحياء وقالت في نفسها كيف يكون العمل وأنا امرأة فإن خالفت أمره وسرت ربما يرسل خلفي جيشاً يقتلني وإن أطلعته على أمري ربما أفتضح وقد فقدت محبوبي قمر الزمان ولم أعرف له خبر وما لي خلاص إلا أن أجيبه إلى قصده وأقيم عنده حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ثم إن السيدة بدور رفعت رأسها وأذعنت للملك بالسمع والطاعة ففرح الملك بذلك وأمر المنادي أن ينادي في جزائر الآبنوس بالفرح والزينة وجمع الحجاب والنواب والأمراء وأرباب دولته وقضاة مدينته وعزل نفسه عن الملك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملك أرمانوس لما عزل نفسه من الملك سلطن السيدة بدور وألبسها بدلة الملك ودخلت الأمراء جميعاً على السيدة بدور وهم لا يشكون في أنها شاب وصار كل نظر إليهم منهم جميعاً يبل سراويله لفرط حسنها وجمالها فلما تسلطنت الملكة بدور ودقت لها البشائر بالسرور شرع الملك أرمانوس في تجهيز ابنته حياة النفوس وبعد أيام قلائل أدخلوا السيدة بدور على حياة النفوس فكانتا كأنهما بدران اجتمعا أو شمسان في وقت طلعا فردوا عليهما الأبواب وأرخوا الستائر بعد بعد أن أوقدوا لهما الشموع وفرشوا لهما الفرش فعند ذلك جلست السيدة بدور مع السيدة حياة النفوس فتذكرت محبوبها قمر الزمان واشتدت بها الأحزان فسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
يا راحلين وقلـبـي زائد الـقـلـق

لم يبق بينكم في الجسم مـن رمـق
قد كان لي مقلة تشكو السهـاد وقـد

أذابها الدمع يا ليت السهـاد بـقـي
لما رحلتم أقام الـضـب بـعـدكـم

ولكن سلوا عنه ماذا في البعاد لقـي
لولا جفوني وقد فاضت مدامـعـنـا

توقدت عرصات الأرض من حرقي
أشكو إلى الله أحبابـاً عـدمـتـهـم

لم يرحموا صبوتي فيهم ولاقلـقـي
لا ذنب لي عندهم إلا الغرام بـهـم

والناس بين سعيد في الهوى وشقـي
ثم إن السيدة بدور لما فرغت من إنشادها جلست إلى جانب السيدة حياة النفوس وقبلتها في فمها ونهضت من وقتها وساعتها وتوضأت ولم تزل تصلي حتى نامت السيدة حياة النفوس ثم دخلت السيدة بدور معها في الفراش وأدارت ظهرها إلى الصباح، فلما طلع النهار دخل الملك هو وزوجته إلى انتهما وسألاها عن حالها فأخبرتهما بما جرى وما سمعته من الشعر. هذا ما كان من أمر حياة النفوس وأبويها، وأما ما كان من أمر الملكة بدور فإنها خرجت وجلست على كرسي المملكة وطلع إليها الأمراء وأرباب وجميع الرؤساء والجيوش وهنأوها بالملك وقبلوا الأرض بين يديها ودعوا لها بدوام الملك وهم يعتقدون أنها رجل، ثم أنها أمرت ونهت وحكمت وعدلت وأطلقت من الحبوس وأبطلت المكوس ولم تزل قاعدة في مجلس الحكومة إلى أن دخل الليل ثم دخلت المكان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما دخلت المكان المعد لها وجدت السيدة حياة النفوس جالسة فجلست بجانبها وطقطقت على ظهرها ولاطفتها وقبلتها بين عينيها وأنشدت هذه الأبيات:
قد صار سري بالدموع عـلانـية

ونحول جسمي في الغرام علانيه
أخفي الهوى ويذيعه ألم الـنـوى

حالي على الواشين ليست خافـية
يا راحلين عن الحمى خـلـفـتـم

جسمي بكم مضنى ونفسي بالـيه
وسكنتم غور الحشا فـنـواظـري

تجري مدامعها وعـينـي دامـية
وأنا فداء الغائبين بـمـهـجـتـي

أبداً وأشـواقـي إلـيهـم بـاديه
لي مقلة مقروحة فـي حـبـهـم

جفت الكرى ودموعها متـوالـيه
ظن العدا من عـلـيه تـجـلـداً

هيهات ما أذني إلـيهـم واعـيه
خابت ظنونـهـم لـدي وإنـمـا

قمر الزمان بـه أنـال أمـانـيه
جمع الفضائل ما حواها قـبـلـه

أحد سواه في العصور الخـالـيه
أنسى الأنام بـجـوده وبـعـفـوه

كرم بن زائدة وحلـم مـعـاوية
لولا الإطالة والقريض مقـصـر

عن حصر حسنك لم أدع من قافيه
ثم إن الملكة بدور نهضت قائمة على أقدامها ومسحت دموعها وتوضأت وصلت ولم تزل تصلي إلى أن غلب النوم على السيدة حياة النفوس فنامت فجاءت الملكة الملكة بدور ورقدت بجانبها إلى الصباح ثم قامت وصلت الصبح وجلست على كرسي المملكة وأمرت ونهت وحكمت وعدلت. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر الملك أرمانوس فإنه دخل على ابنته وسألها عن حاله فأخبرته بجميع ما جرى لها وأنشدته الشعر الذي قالته الملكة بدور وقالت: يا أبي ما رأيت أحداً أكثر عقلاً وحياءً من زوجي غير أنه يبكي ويتنهد، فقال لها أبوها: يا ابنتي اصبري فما بقي له غير هذه الليلة الثالثة فإن لم يدخل بك ويزل بكارتك يكون لنا معه رأي وتدبير وأخلصه من الملك وأنفيه من بلادنا، فاتفق مع ابنته على هذا الكلام وأضمر الرأي.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أقبل الليل قامت الملكة بدور من دست المملكة إلى القصر ودخلت المكان الذي هو معد لها فرأت الشمع موقداً والسيدة جالسة فتذكرت وزوجها وما جرى بينهما في تلك المدة اليسيرة ووالت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
قسماً لقد ملأت أحاديثي الـفـضـا

كالشمس مشرقة على ذات الغضى
نطقت إشارته فأشكل فـهـمـهـا

فلذاك شوقي في المزيد وانقضـى
أبغضت حسن الصبر مذ أحببـتـم

أرأيت صبراً في الصبابة مبغضـا
وممرض اللحظات صال بفتكـهـا

واللحظ أقتل ما يكون ممـرضـا
ألقـى ذوائبـه وحـط لـثـامـه

فرأيت منه الحسن أسود أبـيضـا
سقمي وبـرئي فـي يديه وإنـمـا

يشفي سقام الحب من قد أمرضـا
هام الوشاح برقة فـي خـصـره

والردف من حسد أبى أن ينهضـا
وكان طرتـه وضـوء جـبـينـه

ليل دجى فاعتافه صـبـح أضـا
فلما فرغت من إنشادها أرادت أن تقوم إلى الصلاة وإذا بحياة النفوس تعلقت بذيلها وقالت لها: أما تستحي من والدي وما فعل معك من الجميل وأنت تتركني إلى هذا الوقت، فلما سمعت منها ذلك جلست في مكانها وقالت لها يا حبيبتي ما الذي تقولينه؟ قالت: الذي أقوله إني ما رأيت أحداً معجباً بنفسه مثلك فهل كل من كان مليحاً يعجب بنفسه هكذا، ولكن أنا ما قلت هذا الكلام لأجل أن أرغبك في وإنما قلته خفية عليك من الملك أرمانوس فإنه أضمر إن لم تدخل بي في هذه الليلة وتزيل بكارتي أنه ينزعك من المملكة في غد ويسفرك من بلاده يزداد به الغيظ فيقتلك وأنا يا سيدي رحمتك ونصحتك والرأي رأيك. فلما سمعت الملكة بدور منها ذلك الكلام أطرقت برأسها إلى الأرض وتحيرت في أمرها، ثم قالت في نفسها إن خالفته هلكت وإن أطلعته افتضحت ولكن أنا في هذه الساعة ملكة على جزائر الأبنوس كلها وهي تحت حكمي وما أجتمع أنا وقمر الزمان إلا في هذا المكان لأنه ليس له طريق إلى بلاده إلا من جزائر الأبنوس، وقد فوضت أمري إلى الله فهو نعم المدبر.
ثم إن الملكة بدور قالت لحياة النفوس يا حبيبتي إن تركي لك وامتناعي عنك بالرغم عني، وحكت لها ما جرى من المبتدأ إلى المنتهى وأرتها نفسها وقالت لها: سألتك بالله أن تخفي أمري وتكتمي سري حتى يجمعني الله بمحبوبي قمر الزمان ز بعد ذلك يكون ما يكون. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما أعلمت حياة النفوس بقصتها وأمرتها بالكتمان تعجبت من ذلك غاية العجب ورقت لهل ودعت لها بجمع شملها على محبوبها قمر الزمان وقالت يا أختي لا تخافي ولا تفزعي واصبري إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ثم إن حياة النفوس أنشدت هذين البيتين:
السر عندي في بيت له غلـق

قد ضاع مفتاحه والبيت مختوم
ما يكتم السر إلا كل ذي ثـقة

والسر عند خيا الناس مكتـوم
فلما فرغت من شعرها قالت يا أختي إن صدور الأحرار قبور الأسرار وأنا لا أفشي لك سراً ثم لعبتا وتعانقتا ونامتا إلى قريب الآذان ثم قامت حياة النفوس وأخذت دجاجة وذبحتها وتلطخت بدمها وقلعت سراويله وصرخت فدخل لها أهلها وزغردت الجواري ودخلت عليها أمها وسألتها عن حالها وأقامت عندها إلى المساء، وأما الملكة بدور فإنها لما أصبحت قامت وذهبت إلى الحمام واغتسلت وصلت الصبح ثم توجهت إلى مجلس الحكومة وجلست على كرسي المملكة وحكمت بين الناس، فلما سمع الملك أرمانوس الزغاريد سأل عن الخبر فأخبروه بافتضاض بكارة ابنته ففرح بذلك واتسع صدره وانشرح وأولم اللائم ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان، هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الملك شهرمان فإنه بعد خروج ولده إلى الصيد والقنص هو ومرزوان كما تقدم صبر حتى أقبل عليه الليل فلم يجيء ولده فتحير عقله ولم ينم تلك الليلة وقلق غاية القلق وزاد وجده واحترق وما صدق أن الفجر انشق حتى أصبح ينتظر ولده إلى نصف النهار فلم يجيء فأحس بقلبه بالفراق والتهب على ولده من الإشفاق ثم بكى حتى بل ثيابه وأنشد من قلب مصدوع:
مازلت معترضاً على أهل الهوى

حتى بليت بحـلـوه وبـمـره
وشربت كأس مراره متجـرعـاً

وذللت فيه لعـبـده ولـحـره
نذر الزمان بأن يفرق شمـلـنـا

والآن قد أوفى الزمان بـنـذره
فلما فرغ من شعره مسح دموعه ونادى في عسكره بالرحيل والحث على السفر الطويل فركب الجيش جميعه وخرج السلطان وهو محترق القلب على ولده قمر الزمان وقلبه بالحزن ملآن ثم فرق جيشه يميناً وشمالاً وأماماً وخلف ست فرق وقال لهم الإجتماع غداً عند مفرق الطريق فتفرقت الجيوش والعسكر كما ذكرنا وسلفرت الخيول ولم يزالوا مسافرين بقية النهار إلى أن جن الليل فساروا جميع الليل إلى نصف النهار حتى وصلوا إلى مفرق طرق فلم يعرفوا أي طريق سلكها ثم رأوا أثر أقمشة مقطعة ورأوا اللحم مقطعاً ونظروا أثر الدم باقياً وشاهدوا كل قطعة من الثياب واللحم في ناحية فلما رأى الملك شهرمان ذلك صرخ صرخة عظيمة من صميم القلب وقال واولداه ولطم على وجهه ونتف لحيته ومزق أثوابه وأيقن بموت ولده وزاد في البكاء والنحيب وبكت لبكائه العساكر وكلهم أيقنوا بهلاك قمر الزمان وحثوا على رؤوسهم التراب ودخل عليهم الليل وهم في بكاء ونحيب حنى أشرفوا على الهلاك واحترق قلب الملك بلهيب الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
لا تعذلوا المحزون في أحزانه

فلقد جفاه الوجد من أشجانـه
يبكي لفرط تأسف وتـوجـع

وغرامه ينبيك عن نـيرانـه
يا سعد من لمتيم حلف الضنى

أن لا يزيل الدمع من أجفانه
يبدي الغرام لفقد بدر زاهـر

بضيائه يزهو على أقرانـه
ولقد سقاه الموت كأساً مترعاً

يوم الرحيل فشط عن أوطانه
فلما فرغ من إنشاده رحل بجيوشه إلى مدينته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان أيقن بهلاك ولده وعلم أنه عدا عليه وافترسه وحش وإما قاطع طريق ثم نادى في جزائر خالدات أن يلبسوا السواد من الأحزان على ولده قمر الزمان وعمل له بيتاً وسماه بيت الأحزان وسار كل يوم خميس واثنين يحكم في مملكته بين عسكره ورعيته وبقية الجمعة يدخل بيت الأحزان وينعي ولده ويرثيه بالأشعار فمن ذلك قوله:
فيوم الأماني يوم قربكم منـي

ويوم امنايا يوم إعراضكم عني
إذا بت مرعوباً أهدد بالـردى

فوصلكم عندي ألذ من الأمـن
ومن ذلك قوله:
نفس الفداء لظاعنين رحيلـه

أنكى وأفسد في القلوب وعاثا
فليقض عدته السرور فإننـي

طلقت بعدهم النعيم ثـلاثـا
هذا ما كان من أمر الملك شهرمان وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور فإنها صارت ملكة في بلاد الأبنوس وصار الناس يشيرون إليها بالبنان ويقولون هذا صهر الملك أرمانوس وكل ليلة تنام مع السيدة حياة النفوس وتشتكي وحشة زوجها قمر الزمان وتصف لها حسنه وجماله وتتمنى ولو في المنا وصاله.
هذا ما كان من أمر الملكة بدور. وأما ما كان من أمر قمر الزمان فإنه لم يزل مقيماً عند الخولي في البستان مدة من الزمان وهو يبكي بالليل والنهار ويتحسر وينشد الأشعار على أوقات الهنا والسرور والخولي يقول: في آخر السنة تسير المراكب إلى بلاد المسلمين، ولم يزل قمر الزمان على تلك الحالة إلى أن رأى الناس مجتمعين على بعضهم فتعجب من ذلك، فدخل عليه الخولي وقال له: يا ولدي أبطل الشغل في هذا اليوم ولا تحول الماء على الأشحار أن هذا اليوم عيد والناس فيه يزور بعضهم بعضاً فاسترح واجعل بالك إلى الغيط، فإني أريد أن أبصر لك مركباً فما بقي إلا القليل وأرسلك إلى بلاد المسلمين، ثم إن الخولي خرج من البستان وبقي قمر الزمان وحده فانكسر خاطره وجرت دموعه ولم يزل يبكي حتى غشي عليه.
فلما أفاق قام يتمشى في البستان وهو متفكر فيما فعل به الزمان وطول البعد والهجران وعقله ولهان فعثر ووقع على وجهه فجاءت جبهته على حجر شجرة فجرى دمه واختلط بدموعه فمسح دمه ونشف دموعه وشد جبهته بخرقة وقام يتمشى في ذلك البستان وهو ذاهل العقل فنظر بعينه إلى شجرة فوقها طائران يتخاصمان فقلب أحدهما الآخر ونقره في عنقه فخلص رقبته من جثته ثم أخذ رأسه وطار به ووقع المقتول في الأرض قدام قمر الزمان.
فبينما هو كذلك إذا بطائرين كبيرين قد انقضا عليه ووقف واحد منهما عند رأسه والأخر عند ذنبه وأرخيا أجنحتهما عليه ومدا أعناقهما إليه وبكيا فبكى قمر الزمان على فراق زوجته حين رأى الطائرين يبكيان على صاحبهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان بكى على فراق زوجته لما رأى الطائران يبكيان على صاحبهما ثم إن قمر الزمان رأى الطائرين حفرا حفرة ودفنا الطائر المقتول فيها وطارا إلى الجو وغابا ساعة، ثم عادا ومعهما الطائر القاتل فنزلا به على قبر المقتول وبركا على القاتل حتى قتلاه وشقا جوفه وأخرجا أمعائه وأراقا دمه على قبر الطائر المقتول، ثم نثرا لحمه ومزقا جلده وأخرجا ما في جوفه وفرقا إلى أماكن متفرقة هذا كله جرى وقمر الزمان ينظر ويتعجب فحانت منه التفاتة إلى الموضع الذي قتلا فيه الطائر فوجد فيه شيئاً يلمع فدنا منه فوجده حوصلة الطائر فأخذها وفتحها فوجد فيها الفص الذي كان سبب فراقه من زوجته. فلما رآه وعرفه وقع على الأرض مغشياً عليه من فرحه فلما أفاق قال في نفسه هذا علامة الخير وبشارة الإجتماع ثم تامله ومر به على عينه وربطه على ذراعه واستبشر بالخير وقام لينظر الخولي ولم يزل يفتش عليه إلى الليل فلم يأت فبات قمر الزمان في موضعه إلى الصباح.
ثم أفاق إلى شغله وشد وسطه بحبل من الليف وأخذ الفاس والقفة وشق في البستان فأتى إلى شجرة خروب وضرب الفاس في جذرها فطنت الضربة فكشف التراب فوجده طابقاً ففتحه، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما فتح ذلك الطابق وجد باباً فنزل فيه فلقي قاعة قديمة من عهد ثمود وعاد وتلك القاعة واسعة وهي مملوءة ذهباً أحمر فقال في نفسه لقد ذهب التعب وجاء الفرح والسرور، ثم إن قمر الزمان طلع من المكان إلى ظاهر البستان ورد الطابق كما كان، ورجع إلى البستان وإلى تحويل الماء على الأشجار، ولم يزل كذلك إلى آخر النهار فجاء الخولي وقال يا ولدي أبشر برجوعك إلى الأوطان فإن التجار تجهزوا للسفر والمراكب بعد ثلاثة أيام مسافرة إلى مدينة من مدائن المسلمين، فإذا وصلت إليها تسافر في البر ستة أشهر حتى تصل جزائر خالدات، والملك شهرمان ففرح قمر الزمان بذلك ثم قبل يد الخولي وقال له يا والدي كما بشرتني فأنا أبشرك بشارة وأخبره بأمر القاعة ففرح الخولي وقال يا ولدي أنا في هذا البستان صار لي مدة ثمانون عاماً لم أجد شيء وأنت لك عندي دون السنة ووجدت هذا الكنز فهو رزقك وسبب زوال عكسك، ومعين لك على وصولك إلى أهلك واجتماع شملك بمن تحب. فقال قمر الزمان: لا بد من المقاسمة بيني وبينك، ثم أخذ الخولي ودخل في تلك القاعة وأراه الذهب وكان في عشرين خابية فأخذ عشرة والخولي عشرة.
فقال له: يا ولدي عب لك أمطار من الزيتون العصافيري الذي في هذا البستان فإنه معدوم في غير بلادنا وتحمله التجار إلى جميع البلاد واحمل الذهب في الأمطار والزيتونفوق الذهب، ثم سدها وخذها في المركب، فقام قمر الزمان م وقته وساعته وعبأ خمسين مطراً ووضع الذهب فيها، وسد عليه بعد أن جعل الزيتون فوق الذهب وحط الفص معه في مطر، وجلس هو والخولي يتحدثان وأيقن بجمع شمله وقربه من أهله وقال في نفسه إذا وصلت إلى جزيرة الأبنوس أسافر منها إلى بلاد أبي وأسأل عن محبوبتي بدور فيا ترى رجعت إلى بلادها أو سافرت إلى بلاد أبي أو حدث لها حادث في الطريق ثم جلس قمر الزمان ينتظر انقضاء الأيام وحكى للخولي حكاية الطيور وما وقع بينهما.
فتعجب الخولي من ذلك ثم ناما إلى الصباح فأصبح الخولي ضعيفاً، واستمر على ضعفه يومين وفي ثالثيوم اشتد به الضعف حتى يئسوا من حياته فحزن قمر الزمان على الخولي، فبينما هو كذلك إذا بالريس والبحرية قد أقبلوا وسألوا عن الخولي فأخبرهم بضعفه فقالوا أين الشاب الذي يريد السفر معنا إلى جزيرة الآبنوس فقال لهم قمر الزمان هو المملوك الذي بين أيديكم ثم أمرهم بتحويل الأمطار إلى المركب فنقلوها إلى المركب، وقالوا لقمر الزمان أسرع فإن الريح قد طاب.
فقال لهم سمعاً وطاعة ثم نقل زوادته إلى المركب، ورجع إلى الخولي يودعه فوجده في النزاع الأخير، فجلس عند رأسه حتى مات وغمضه وجهزه ووراه في التراب ثم توجه إلى المركب فوجدها أرخت القلوع وسارت ولم تزل تشق البحر حتى غابت عن عينه فصار قمر الزمان مدهوشاً حيران ثم رجع إلى البستان وهو مهموم مغموم وحثا التراب على رأسه، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان رجع إل البستان وهو مهموم مغموم بعد أن سافرت المركب واستأجر البستان من صاحبه، وأقام تحت يده رجلاً يعاونه على سقي الشجر وتوجه إلى الطابق ونزل إلى القاعة وعبأ الذهب الباقي في خمسين مطراً ووضع فوقه الزيتون عن المركب وسأل عن المركب فقالوا إنها لا تسافر إلا في كل سنة مرة واحدة فزاد به الوسواس وتحسر على ما جرى له لا سيما فقد الفص الذي للسيدة بدور فصار يبكي بالليل والنهار وينشد الأشعار، هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
و أما ما كان من أمر المركب فإنه طاب لها الريح ووصلت إلى جزيرة الأبنوس واتفق بالأمر المقدور أن الملكة بدور كانت جالسة في الشباك فنظرت إلى المركب وقد رست في الساحل فخفق فؤادها وركبت هي والأمراء والحجاب وتوجهت إلى الساحل ووقفت على المركب وقد دار النقل في البضائع إلى المخازن فأحضرت الريس وسألته عما معه. فقال: أيها الملك إن معي في هذه المركب من العقاقير والسفوفات والأكحال والمراهم والأدهان والأموال والأقمشة الفاخرة والبضائع النفيسة ما يعجز عن حمله الجمال والبغال وفيها من أصناف العطر والبهار من العود القاقلي والتمر الهندي والزيتون العصافيري ما يندر وجوده في هذه البلاد فاشتهت نفسها الزيتون، وقالت لصاحب المركب ما مقدار الذي معك من الزيتون؟ قال معي خمسون مطراً ملآنة، ولكن صاحبها ما حضر معنا والملك يأخذ ما اشتهاه منها، فقالت: أطلعوها في البر لأنظر إليها فصاح الريس على البحرية فطلعوا الخمسين مطراً وأعطيكم ثمنها مهما كان.
فقال الريس: هذا ما له في بلادنا قيمة ولكن صاحبها تأخر عنا وهو رجل فقير الحال، قالت: وما مقدار ثمنها، قال: ألف درهم، قالت: آخذها بألف دينار، ثم أمرت بنقلها إلى القصر، فلما جاء الليل أمرت بإحضار مطر فكشفته وما في البيت غيرها هي وحياة النفوس فحطت بين يديها طبقاً ووضعت فيه شيئاً من المطر فنزل في الطبق كوم من الذهب الأحمر، فقالت للسيدة حياة النفوس: ما هذا إلا ذهب، ثم اختبرت الجميع فوجدتها كلها ذهباً والزيتون كله ما يملأ مطراً واحداً وفتشت في الذهب فوجدت الفص فيه فأخذته وتاملته فوجدته الفص الذي كان في تكة لباسها وأخذه قمر الزمان، فلما تحققته صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما رأت الفص صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها، فلما افاقت قالت في نفسها إن هذا الفص كان سبباً في فراق محبوبي قمر الزمان ولكنه بشير الخير ثم أعلمت السيدة حياة النفوس بأن وجود بشارة الإجتماع، فلما أصبح الصباح جلست على كرسي المملكة وأحضرت ريس المركب، فلما حضر قببل الأرض بين يديها فقالت: أين خليتم صاحب هذا الزيتون؟ فقال: يا ملك الزمان تركناه في بلاد المجوس وهو خولي بستان، فقالت له: إن لم تأت به فلا تعلم ما يجري عليك وعلى مركبك من الضرر، ثم أمرت بالختم على مخازن التجار وقالت لهم إن صاحب هذا الزيتونغريمي ولي عليه دين وإن لم يأت لأقتلنكم جميعاً وأنهب تجارتكم، فأقبلوا على الريس ووعدوه بأجرة مركبه ويرجع ثاني مرة وقالوا خلصنا من هذا الغاشم، فنزل الريس في المركب وحل قلوعها وكتب الله له السلامة حتى دخل الجزيرة في الليل وطلع إلى البستان وكان قمر الزمان قد طال عليه الليل وتذكر محبوبته فقعد يبكي على ما جرى له وهو في البستان ثم إن الريس دق الباب على قمر الزمان ففتح الباب وخرج إليه فحمله البحرية ونزلوا به إلى المركب وحلوا القلوع فيافروا وساروا ولم يزالوا سائرين أياماً وليالي وقمر الزمان لا يعلم ما موجب ذلك فسألهم عن السبب. فقالوا له: أنت غريم الملك صاحب جزائر الآبنوس صهر الملك أرمانوس وقد سرقت ماله يا منجوس، فقال: والله عمري ما دخلت هذه البلاد ولا أعرفها، ثم إنهم ساروا به حتى أشرفوا على جزائر الأبنوس وطلعوا به على السيدة بدور، فلما رأته عرفته قالت: دعوه عند الخدام ليدخلوا به الجمام وأفرجت عن التجار وخلعت على الريس خلعة تساوي عشرة آلاف دينار ودخلت على السيدة حياة النفوس واعلمتها بذلك، وقالت لها اكتمي الخبر حتى أبلغ مرادي وأعمل عملاً يؤرخ ويقرأ بعدنا على الملوك والرعايا وقد أمرت أن يدخلوا بقمر الزمان الخمام فدخلوا به وألبسوه لبس الملوك ولما طلع قمر الزمان من الحمام كأنه غصن بان أو كوكب يخجل بطلعته القمران وردت روحه إليه ودخل القصر. فلما نظرته صبرت قلبها حتى يتم مرادها وأنعمت عليه بمماليك وخدم وجمال وبغال وأعطته خزانة مال ولم تزل ترقي قمر الزمان من درجة إلى درجة حتى جعلته خازندار وسلمت إليه الأموال وأقبلت عليه وقربته منها وأعلمت الأمراء بمنزلته فأحبوه جميعهم وصارت الملكة بدور كل يوم تزيد له في المرتبات وقمر الزمان لا يعرف سبب تعظيمها له ومن كثرة الأموال صار يهب ويتكرم ويخدم الملك أرمانوس حتى أحبه وكذلك أجبته الأمراء والخواً والعوام وصاروا يحلفون بحياته، كل ذلك وقمر الزمان يتعجب من تعظيم الملكة بدور له ويقول في نفسه والله إن هذه المحبة لا بد لها من سبب وربما يكون هذا الملك إنما يكرمني هذا الإكرام الزائد لأجل غرض فاسد فلا بد أن أستأذنه وأسافر من بلاده.
ثم إنه توجه إلى الملكة بدور وقال لها: أيها الملك إنك أكرمتني إكرماً زائداً، ومن تمام الإكرام أن تأذن لي بالسفر وآخذ معي جميع ما انعمت علي، فتبسمت الملكة بدور وقالت له: ما حملك على طلب الأسفار واقتحام الأخطار وأنت في غاية الإكرام ومزيد الأنعام؟ فقال لها قمر الزمان: أيها الملك السعيد إن هذا الإكرام إذا لم يكن له سبب فإنه أعجب العجب خصوصاً وقد أوليتني من المراتب ما استحق أن يكون للشيوخ الكبار مع إنني من الأطفال الصغار، فقالت له الملكة بدور: سبب ذلك أني أحبك لفرط جمالك الفائق وبديع حسنك الرائق وإن أمكنتني مما أريد منك أزيدك إكراماً وعطاء وإنعاماً وأجعلك وزيراً على صغر سنك كما جعلني الناس سلطاناً عليهم وانا في هذا السن ولا عجب اليوم في رئاسة الأطفال ولله در من قال:
كأن زماننا من قوم لوط

له شغف تقديم الصغار
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام خجل واحمرت خدوده حنى صارت كالضرام وقال: لا حاجة لي بهذا الإكرام المؤدي إلى ارتكاب الحرام بل أعيش فقيراً من المال غنياً بالمروءة والكمال، فقالت له الملكة بدور: أنا لا أغتر بورعك الناشيء عن التيه والدلال ولله در من قال:
ذاكرته عهد الوصال فقال لي

كم ذا تطيل من الكلام المؤلم
فأريته الدينار أنـشـد قـائلاً

أين المفر من القضاء المبرم
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام قال: أيها الملك إنه لا عادة ليبهذه الفعال ولا طاقة لي على حمل الأثقال التي يعجز حملها أكبر مني فكيف بي على صغر سني؟ فلما سمعت كلامه الملكة بدور تبسمت وقالت:إن هذا الشيء عجاب كيف يظهر الخطأ من خلال الصواب إذا كنت صغيراً فكيف تخشى الحرام وارتكاب الآثام وانت لم تبلغ حد التكليف ولا مؤاخذة في ذنب الصغير ولا تعنيف فقد ألزمت نفسك الحجة بالجدال وخفت على عليك كلمة الوصال فلا تظهر بعد ذلك امتناعاً ولا نفوراً وكان أمراً لله قدراً مقدوراً فانا أحق منك بخشية الوقوع وقد أجاد من قال:
عضوي كبير والصغير يقول لي

اطعن به الأحشا وكن صنـديدا
فأجبته ذا لا يجوز فقـال لـي

عندي يجوز فنكتـه تـقـلـيدا
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام تبدل الضياء في وجهه بالظلام وقال: أيها الملك إنه يوجد عندك من النساء والجواري الحسان ولا يوجد له نظير في هذا الزمان فهلا استغنيت بذلك عني فمل إلى ما شئت منهن ودعني فقالت: إن كلامك صحيح ولكن لا يشتفي بهن من عشقك، ألم ولا تبريح وإذا فسدت المزجة والطبيعة فهي لغير النصح سميعة فاترك الجدال واسمع قول من قال:
بوردة خـده فـوق أس عـذاروأصبحت بالظبى المفرطق مغرماولا رأى لي في عشق ذات سوارأنيسي في النادي وفي خلوتي معـاخلاف أنيسي فـي قـرارة داريفيا لا ئمي في هجر هند وزينـبوقد لاح عذري كالمصباح الساريأترضى بأن أمسي أسـير أسـيرةمحـصـنة أو مـن وراء جـدارو قول الآخر:جادت بفرج نـاعـمفقلت إني لـم أنـكفانصـرفـت قـائلةيؤفك عنك من أفكالنيل من قـدام فـيهذا الزمان قد تركودورت لي فـقـحةمثل اللجين المنسبكأحسنت يا سـيدتـيأحسنت لا فجعت بكأحسنت يا أوسع مـنفتوح مولانا الملـك
أما ترى السوق قد صفت فواكهه
للتين قوم وللـجـمـيز أقـوام
و يقول آخر:
وصامتة الخلخال رن وشـاحـهـا
فهذا قد استغنى وذا يشتكي الفقرا
تريد السلوى عنك جهلاً بحسنـهـا
وما كنت أرضى بعد إيماني الكفرا
وحق عذار بزردي بقفـاصـهـا
لما خدعتني عنك غـانـية عـذرا
و قول الآخر:
يا فريد الجمال حـبـك دينـي
واختياري على جميع المذاهب
قد تركت النساء لأجلك حتـى
زعم الناس أنني اليوم راهـب
و يقول الآخر:
سلا خاطري عن زينـب ونـوار
و قول الآخر:
                  يستغفر الناس بـأيديهـم         وهن يستغفرن بالأرجل
                   فيا له من عمل صالـح         يرفعه الله إلى أسفـل
فلما سمع قمر الزمان منها هذه الأشعار وتحقق أنه ليس له مما أرادته فراراً، قال: يا ملك الزمان إن كان ولا بد فعاهدني على أنك لا تفعل بي هذا الأمر إلا مرة واحدة وإن كان ذلك لا يجد في إصلاح الطبيعة الفاسدة وبعد ذلك لا تسألني فيه على الأبد فلعل الله يصلح مني ما فسد، فقالت: عاهدتك على ذلك راجياً إن الله علينا يتوب ويمحو بفضله عنا عظيم الذنوب فإن نطاق أفلاك المغفرة لا يضيق عن أن يحيط بنا ويكفر عنا ما عظم من سيئاتنا، ويخرجنا إلى نور الهدى من ظلام الضلال وقد أجاد وأحسن من قال:
                توهم فينا الناس شيئاً وصممت        عليه نفوس منهم وقـلـوب
                تعالى نحقق ظنهم لنريحهـم           من الإثم فينا مرة ونـتـوب
ثم أعطته المواثيق والعهود وحلفت له بواجب الوجود أنه لايقع بينها وبينه هذا الفعل إلا مرة في الزمان وإن ألجأهما غرامه إلى الموت والخسران فقام معها على هذا الشرط إلى محل خلوتها لتطفئ نيران لوعتها، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم حل سراويله وهو في غاية الخجل وعيونه تسيل من شدة الوجل فتبسمت وأطلعته معها على السرير وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير ومالت عليه بالتقبيل والعناق والتفاف ساق على ساق، ثم قالت له: مد يدك بين فخذي إلى المعهود لعله ينتصب إلى القيام من السجود فبكى وقال: أنا لا أحسن شيئاً من ذلك، فقالت: بحياتي تفعل ما أمرتك به مما هناك، فمد يده وفؤاده زفير فوجدها ألين من الزبد وأنعم من الحرير فاستلذ وجال بيده في جميع الجهات حتى وصل إلى قبة كثيرة البركات والحركات، وقال في نفسه: لعل هذا الملك خنثى وليس بذكر ولا أنثى، ثم قال: أيها الملك إني لم أجد لك آلة مثل آلات الرجال فما حملك على هذه الفعال؟ فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها، وقالت: يا حبيبي ما أسرع من نسيت ليالي بتناها وعرفته بنفسها فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور فاحتضنها واحتضنته وقبلها وقبلته، ثم اضجعن على فراش الوصال، وتناشدت أقوال من قال:
                لما دعته إلى وصالي عـطـفة            من معتطف بتعطف متواصي
               وسقت قساوة قلبها من لينـهـا              فأجاب بعد ممنع وتعـاصـي
               خشي العواذل أن تـراه إذا بـدا            قاسى بعدة آمـن الإرهـاص
               شكت القصور رواد فاقد حملت           أقدامه في المشي حمـل قـلاً
               متقل الصمصام من ألحـاظـه             ومن الدجى مـتـدرعـاً بـلاً
              وشذاء بشرني بسعـد قـدومـه              ففرت مثل الطير من أقفاصي
              وفرشت حدي في الطريق لنعله            فشفي بأثمد تربها أرمـاصـي
              وعقدت ألوية الوصال معانـقـاً             وفككت عقدة حظي المتعاصي
              وأقمت أفراحاً أجاب نـداءهـا              طرب صفاً عن شائب الأنغاص
              والبدر نقط بالنجوم الثغـر مـن             حبب على وجه الطلا رقـاص
              وعكفت في محراب لذاتها على            ما من تعاطيه يتوب العاصـي
              قسماً بآيات الضحى من وجهـه            إلى أنس فيه سورة الإخـلاص
 ثم إن الملكة بدور أخبرت قمر الزمان بجميع ما جرى لها من الأول إلى الآخر وكذلك هو أخبرها بجميع ما جرى له وبعد ذلك انتقل معها إلى العتاب وقال لها: ما حملك على ما فعلته بي في هذه الليلة؟ فقالت: لا تؤاخذني كان قصدي المزاح ومؤيد البسط والأنشراح، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح أرسلت الملكة بدور إلى الملك أرمانوس والد الملكة حيا النفوس وأخبرته بحقيقة أمرها وأنها زوجة قمر الزمان وأخبرته بقصتهما وبسبب افتراقهما من بعضهما وأعلمته أن ابنته حياة النفوس بكر على حالها.
فلما سمع الملك أرمانوس صاحب جزائر الآبنوس قصة الملكة بدور بنت الملك الغيور وتعجب منها غاية العجب وأمر أن يكتبوها بماء الذهب، ثم التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا ابن الملك هل لك أن تصاهرني وتتزوج ابنتي حياة النفوس؟ فقال له: حتى أشاور الملكة بدور فإن لها علي فضلاً غير محصور، فلما شاورها قالت له: نعم الرأي هذا فتزوجها وأكون أنا لها جارية لأن لها معروفاً وإحساناً وخيراً وامتناناً وخصوصاً ونحن في محلها وقد غمرنا إحسان أبيها، فلما رأى قمر الزمان أن الملكة بدور مائلة إلى ذلك ولم يكن عندها غيرة من حياة النفوس اتفق معها على هذا الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان اتفق مع زوجته الملكة بدور على هذا الأمر وأخبر الملك أرمانوس بما قالتهالملكة بدور من أنه تحب ذلك وتكون جارية حياة النفوس، فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام من قمر الزمان فرح فرحاً شديداً ثم خرج وجلس على كرسي مملكته وأحضر جميع الوزراء والأمراء والحجاب وأرباب الدولة وأخبرهم بقصة قمر الزمان وزوجته الملكة بدور من الأول إلى الآخر وأنه يريد أن يزوج ابنته حياة النفوس إلى قمر الزمان ويجعله سلطاناً عليهم عوضاً عن زوجته الملكة بدور، فقالوا جميعاً حيث كان قمر الزمان هو زوج الملكة بدور التي كانت سلطاناً علينا قبله ونحن نظن أنها صهر ملكنا أرمانوس فكلنا نرضاه سلطاناً علينا ونكون له خدماً ولا نخرج عن طاعته، ففرح الملك أرمانوس فرحاً شديداً ثم أحضر القضاة والشهود ورؤساء الدولة وعقد قمر الزمان على ابنته الملكة حياة النفوس، ثم إنه أقام الأفراح وأولم اللائم الفاخرة وخلع الخلع السنية على جميع الأمراء والمساكين وأطلق جميع المحابيس واستبشر العالم بسلطنة الملك قمر الزمان وصاروا يدعون له بدوام العز والإقبال والسعادة والإجلال.
ثم إن قمر الزمان لما صار سلطاناً أزال المكوس وأطلق من في الحبوس وسار فيهم سيرة حميدة وأقام مع زوجته في هناء وسرور ووفاء وحبور يبيت عند كل واحدة منهما ليلة، ولم يزل على ذلك مدة من الزمان وقد انجلت عنه الهموم والأحزان ونسي أباه الملك شهرمان وما كان له من عز وسلطان حتى رزقه الله من زوجتيه بولدين ذكرين مثل القمرين النيرين أكبرهما من الملكة بدور وكان اسمه الملك الأمجد وو أصغرهما من الملكة حياة النفوس وكان اسمه الملك الأسعد أجمل من أخيه الأمجد، ثم إنهما تربيا في العز والدلال والأدب والكمال وتعلما العلم والسياسة والفروسية حتى صارا في غاية الكمال ونهاية الحسن والجمال وافتتن بهما النساء والجال وصار لهما من العمر نحو سبعة عشر عاماً وهما متلازمان فيأكلان ويشربان سواء ولا يفترقان عن بعضهما ساعة من الساعات ولا وقتاً من الأوقات وجميع الناس تحسدهما على ذلك.
و لما بلغا مبلغ الرجال واتصفا بالكمال صار أبوهما إذا سافر يجلسهما على التعاقب في مجلس الحكم فيحكم كل واحد منهما بين الناس، واتفق بالقدر المبرم أن والقضاء المحتم أن محبة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه وأن محبة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب حياة النفوس زوجة أبيه فصارت كل واحدة من المرأتين تلاعب ابن ضرتها وتقبله وتضمه إلى صدرها وإذا رأت ذلك أمه تظن أنه من الشفقة ومحبة الأمهات لأولادهن، وتمكن العشق من قلوب المرأتين وافتتنا بالولدين فصارت كل واحدة منهن إذا دخل عليها ابن ضرتها تضمه إلى صدرها وتود انه لا يفارقها، وطال عليهما المطال ولم يجدا سبيلاً إلى الوصال والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضع الحكم كل واحد منهما يوماً على عادته. و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك توجه إلى الصيد والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضعه للحكم كل واحد يوماً على عادتهما فجلس للحكم في اليوم الأول الأمجد ابن الملكة بدور فأمر ونهى وولى وعزل وأعطى ومنع فكتبت له الملكة حياة النفوس أم الأسعد مكتوباً تستعطفه فيه وتوضح له أنها متعلقة به ومتعشقة فيه وتكشف له الغطاء وتعلمه أنها تريد وصاله فأخت ورقة وكتبت فيها هذه السجعات: من المسكينة العاشقة الحزينة المفارقة التي ضاع بحبك شبابها وطال فيك عذابها ولو وصفت لك طول الأسف وما أقاسيه من اللهف وما بقلبي من الشغف وما أنا فيه من البكاء والأنيني وتقطع القلب الحزين وتوالي الغموم وتتابع الهموم وما أجده من الفراق والكآبة والإحتراق أطال شرحه في الكتاب وعجزت عن حصره الالحساب وقد ضاقت علي الأرض والسماء ولا لي في غيرك أمل ولا رجاء فقد أشرفت على الموت وكابدت أهوال القوت وزاد بي الإحتراق وألم الهجر والفراق ولو وصفت ما عندي من الأشواق لفاقت عنه الوراق ثم بعد ذلك كتبت هذين البيتين:
             لو كنت أشرح ما ألقها من حـرق         ومن سقام ومن وجد ومن قـلـق
             لم يبق في الأرض قرطاس ولا قلم        ولا مداد ولاشـيء مـن الـورق
ثم إن الملكة حياة النفوس لفت تلك الورقة في رقعة من غالي الحرير مضمخة بالمسك والعنبر ووضعت معها جدائل شعرها التي تستغرق الأموال بسعرها ثم لفتها وأعطتها للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنها أعطت ورقة المواصلة للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد فسار ذلك الخادم وهو لا يعلم ما خفي له في الغيب وعلام الغيوب يدبر الأمور كيف يشاء فلما دخل الخادم على الملك الأمجد قبل الأرض بين يديه وناوله المنديل وبلغه الرسالة فتناول الملك الأمجد المنديل من الخادم وفتحه فرأى الورقة ففتحها وقرأها فلما فهم معناها علم أن امرأة أبيه في عينها الخيانة وقد خانت أباه الملك قمر الزمان في نفسها فغضب غضباً شديداً وذم النساء على فعلهن وقال: لعن الله النساء الخائنات الناقصات عقلاً وديناً. ثم إنه جرد سيفه وقال للخادم: ويلك يا عبد السوء أتحمل الرسالة المشتملة على الخيانة من زوجة سيدك والله أنه لا خير فيك يا أسود اللون والصحيفة يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة ثم ضربه بالسيف في عنقه فعزل رأسه عن جثته وطوى المنديل على ما فيه ووضعه في جيبه ثم دخل على أمه وأعلمها بما جرى وسبها وشتمها وقال: كلكن أنجس من بعضكن والله العظيم لولا أني أخاف إساءة الأدب في حق والدي قمر الزمان وأخي الملك الأسعد لأدخلن وأضربن عنقها كما ضربت عنق خادمها ثم إنه خرج من عند الملكة بدور وهو في غاية الغيظ.
فلما بلغ الملكة حياة النفوس زوجة أبيه ما فعل بخادمها سبته ودعن عليه وأضمرت له المكر فبات الملك الأمجد في تلك الليلة ضعيفاً من الغيظ والقهر والفكر ولم يهنأ له أكل ولا منام فلما أصبح الصباح خرج أخوه الملك الأسعد وجلس في مجلس أبيه الملك قمر الزمان ليحكم بين الناس وأصبحت أمه ضعيفة بسبب ما سمعته عن الملك الأمجد من قتله للخادم ثم إن الملك الأسعد لما جلس للحكم في ذلك اليوم حكم وعدل وولى وعزل وأمر ونهى وأعطى ووهب ولم يزل جالساً في مجلس الحكم إلى قرب العصر ثم إن الملكة بدور أم الملك الأمجد أرسلت إلى عجوز من العجائز الماكرات وأظهرتها على ما في قلبها وأخذت ورقة لتكتب فيها مراسلة للملك الأسعد ابن زوجها وتشكو إليه من كثرة محبتها ووجدها به. فكتبت له هذه السجعات: ممت تلفت وجداً وشوقاً، إلى أحسن الناس خلق وخلقاً المعجب بجماله التائه التائه بدلاله المعرض عن طلب وصاله الزاهد في القرب ممن خضع وذل إلى من جفا ومل الملك الأسعد صاحب الحسن الفائق والجمال الرائق والوجه الأقمر والجبين الأزهر والضياء الأبهر هذا كتابي إلى من حبه أذاب جسمي ومزق جلدي وعظمي، اعلم أنه قد عيل صبري وتحيرت أمري وأقلقني الشوق والبعاد وأجفاني الصبر والرقاد ولازمني الحزن والسهاد وبرح بي الوجد والغرام وحلول الضنى والسقام فالروح تفديك وإن كان قتل الصب يرضيك والله يبقيك ومن كل سوء يقيك، ثم بعد تلك السجعات كتبت هذه الأبيات:
              حكم الزمان بأننـي عـاشـق             يا من محاسنه كبدر يشـرق
              حزت الفصاحة والملاحة كلها          وعليك من دون البرية رونق
              ولقد رضيت بأن تكون معذبي          فعسى علي بنظرة تتصـدق
              من مات فيك صبابة فله الهنا           لا خير فيمن لا يحب ويعشق
ثم كتبت أيضاً هذه الأبيات:
              إليك أسعد أشكو من لهـيب جـوى            فارحم متيمة بالشوق تـلـتـهـب
              إلى متى وأيادي الوجد تلعـب بـي           والعشق والفكر والتسهيد والنصـب
              طوراً ببحر وطوراً أشتكي لهـبـاً             في مهجتي إن ذا يا منيتيت عجـب
              يا لائمي خل لومي والتكمس هربـاً           من الهوى فدموع العين تنسـكـب
              كم صحت وجداً من الهجران واحربا         فلم يفدني بذاك الـويل والـحـرب
              أمرضتني بصدود لست أحـمـلـه              أنت الطبيب فاسعفني بمـا يجـب
              يا عاذلي كف عن عذلي مـحـاذرة            كيلا يصيبك من داء الهوى عطـب
ثم إن الملكة بدور ضمخت ورقة الرسالة بالمسك الأذفر ولفتها في جدائل شعرها وهي من الحرير العراقي وشراريبها من قضبان الزمرد الأخضر مرصعة بالدر والجوهر، ثم سلمتها إلى العجوز وأمرتها أن تعطيها للملك الأسعد ابن زوجها الملك قمر الزمان، فراحت العجوز من أجل خاطرها ودخلت على الملك الأسعد من وقتها وساعتها وكان في خلوة عند دخولها فناولته الورقة بما فيها وقد وقفت ساعة زمانية تنتظر رد الجواب فعند ذلك قرأ الملك الأسعد الورقة وفهم ما فيها ثم بعد ذلك لف الورقة في الجدائل ووضعها في جيبه وغضب غضباً شديداً ما عليه من مزيد ولعن النساء الخائنات ثم إنه نهض وسحب السيف من غمده وضرب رقبة العجوز فعزل رأسها عن جثتها وبعد ذلك قام وتمشى حتى دخل على أمه حياة النفوس فوجدها راقدة في الفراش ضعيفة بسبب ما جرى لها من الملك الأمجد فشتمها الملك الأسعد ولعنها ثم خرج من عندها فاجتمع بأخيه الملك الأمجد وحكى له جميع ما جرى له من امه الملكة بدور وأخبره أنه قتل العجوز التي جاءت له بالرسالة، ثم قال له: والله يا أخي لولا حيائي منك لكنت دخلت في هذه الساعة وقطعت رأسها من بين كتفيها، فقال له الملك الأمجد: والله يا أخي أنه قد جرى لي بالأمس لما جلست على كرسي المملكة مثل ما جرى لك في هذا اليوم فإن أمك أرسلت لي رسالة بمثل مضمون هذا الكلام، ثم أخبره بجميع ما جرى له مع أمه الملكة حياة النفوس وقال له: يا أخي لولا حيائي منك لدخلت إليها وفعلت بها ما فعلت بالخادم، ثم إنهما باتا يتحدثان بقية تلك الليلة ويلعنان النساء الخائنات ثم تواصيا بكتمان هذا الأمر لئلا يسمع به أبوهما قمر الزمان فيقتل المرأتين ولم يزالا في غم تلك الليلة إلى الصباح. فلما أصبح الصباح أقبل الملك بجيشه من الصيد وطلع إلى قصره ثم صرف الأمراء إلى حال سبيلهم وقام ودخل القصر فوجد زوجتيه راقدتين على الفراش وهما في غاية الضعف، وقد عملتا لولديهما مكيدة واتفقتا على تضييع أرواحهن لأنهن فضحن أنفسهن معهما وقد خشين أن يصيرا تحت ذلتهما فلما رآهما الملك على تلك الحالة، قال لهن: ما لكن؟ فقامتا إليه وقبلتا يديه وعكستا عليه المسألة وقالتا له: اعلم أيها الملك إن ولديك اللذين تربيا في نعمتك قد خاناك في زوجتيك وأركباك العار. فلما سمع الملك قمر الزمان من نسائه هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتاظ غيظاً شديداً حتى طار عقله من شدة الغيظ وقال لنسائه: أوضحا لي هذه القضية؟ فقالت له الملكة بدور: اعلم يا ملك الزمان أن ولدك الأسعد ابن حياة النفوس له مدة في الأيام وهو يراسلني ويكاتبني ويراودني عن الزنا وأنا أنهاه عن ذلك فلم ينته فلما سافرت أنت هجم علي وهو سكران والسيف في يده فخفت أن يقتلني إذا مانعته كما قتل خادمي فقضى أربه مني غصباً وإن لم تخلص حقي منه أيها الملك قتلت نفسي بيدي وليس لي حاجة بالحياة في الدنيا بعد هذا الفعل القبيح وأخبرته حياة النفوس أيضاً بمثل ما أخبرته به ضرتها بدور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حياة النفوس أخبرت زوجها الملك قمر الزمان بمثل ما أخبرته به الملكة بدور وقالت له: أنا الأخرى جرى لي مع ولدك الأمجد كذلك ثم إنها أخذت في البكاء والنحيب وقالت له: إن لم تخلص لي حقي منه أعلمت أبي الملك أرمانوس بذلك ثم إن المرأتين بكتا قدام زوجهما الملك قمر الزمان بكاءً شديداً، فلما سمع كلامهما اعتقد أنه حق فغضب غضباً شديداً ما له من مزيد فقام وأراد أن يهجم على أولاده الاثنين ليقتلهما فلقيه عمه الملك أرمانوس وقد كان داخلاً في تلك الساعة ليسلم عليه لما علم أنه قد أتى من الصيد فرآه والسيف مشهور في يده والدم يقطر من مناخيره من شدة غيظه فسأله عما به فأخبره بجميع ما جرى من ولديه الأمجد والأسعد، ثم قال له: وهاأنا داخل إليهما لأقتلهما أقبح قتلة وأمثل بهما أقبح مثلة. فقال له الملك أرمانوس وقد اغتاظ منهما أيضاً ونعم ما تفعل يا ولدي فلا بارك الله فيهما ولا في أولاد تفعل هذه الفعال في حق أبيهما ولكن يا ولدي صاحب المثل يقول: من لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب وهما ولداك على كل حال وينبغي أن تقتلهما بيدك، فتجرع غصتهما وتندم بعد ذلك على قتلهما حيث لا ينفعك الندم ولكن أرسلها مع أحد المماليك ليقتلهما في البرية وهما غائبان عن عينيك. فلما سمع الملك قمر الزمان من عمه الملك أرمانوس هذا الكلام رآه صواباً فأغمد سيفه ورجع وجلس على سرير مملكته ودعا خازنداره وكان شيخاً كبيراً عارفاً بالأمور وثبات الدهور وقال له: أدخل إلي ولدي الأمجد والأسعد وكتفها كتافاً جيداً واجعلهما في صندوقين واحملهما على بغل واركب أنت واخرج بهما إلى وسط البرية واذبحهما واملأ لي قنينتين من دمهما وائتني بهما عاجلاً، فقال له الخازندار: سمعاً وطاعة، ثم نهض من وقته وساعته وتوجه إلى الأمجد والأسعد فصادفهما في الطريق، وهما خارجان في دهليز القصر وقد لبسا قماشهما وأفخر ثيابهما، وأرادا التوجه إلى والدهما الملك قمر الزمان ليسلما عليه ويهنآه بالسلامة عند قدومه من السفر إلى الصيد، فلما رآهما الخازندار قبض عليهما، وقال لهما: يا ولدي اعلما أن عبد مأمور وإن أباكما أمرني بأمر فهل أنتما طائعان لأمره، فقالا: نعم، فعند ذلك تقدم إليهما الخازندار وكتفهما ووضعهما في صندوقين وحملهما على ظهر بغل وخرج بهما من المدينة ولم يزل سائراً بهما في البرية إلى قريب الظهر فأنزلهما في مكان أقفر موحش ونزل عن فرسه وحط الصندوقين عن ظهر البغل وفتحهما وأخرج الأمجد والأسعد منهما. فلما نظر إليهما بكى بكاءً شديداً على حسنهما وجمالهما وبعد ذلك جرد سيفه وقال لهما: والله يا سيدي إنه يعز علي أن أفعل بكما فعلاً قبيحاً ولكن أنا معذور في هذه الأمور لأنني عبد مأمور وقد أمرني والدكما الملك قمر الزمان بضرب رقابكما فقالا له: أيها الأمير افعل ما أمرك به الملك فنحن صابرون على ما قدره الله عز وجل علينا وأنت في حل من دمنا، ثم إنهما تعانقا وودعا بعضهما وقال الأسعد للخازندار: بالله عليك يا عم أنك لا تجرعني غصة أخي ولا تسقني حسرته بل اقتلني أنا قبله ليكون ذلك أهون علي، وقال الأمجد للخازندار مثل ما قاله الأسعد، واستعطف الخازندار أن يقتله قبل أخيه وقال له: إن أخي أصغر مني فلا تذقني لوعته ثم بكى كل منهما بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وبكى الخازندار لبكائهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار بكى لبكائهما، ثم إن الأخوين تعانقا وودعا بعضهما، وقال أحدهما للآخر إن هذا كله من كيد الخائنتين أمي وأمك وهذا ما جرى مني في حق أمك وجزاء ما جرى منك في حق أمي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه لراجعون، ثم إن الأسعد اعتنق أخاه وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
               يا من إليه المشتكى والمـفـزع              أنت المعد لكل مـا يتـوقـع
               ما لي سوى قرعي لبابك حـيلة             ولئن وددت فأي بـاب أقـرع
               يا من خزائن فضله في قول كن            أمنن فإن الخير عندك أجمـع
فلما سمع الأمجد بكاء أخيه بكى وضمه إلى صدره وأنشد هذين البيتين:
                      يا من أياديه عندي غير واحدة         ومن مواهبه تنمو من العدد
                     ما نابني من زماني قط نائبة           إلا وجدتك فيها آخذا بـيدي
ثم قال الأمجد للخازندار: سألتك بالواحد القهار الملك الستار أن تقتلني قبل أخي الأسعد لعل نار قلبي تخمد ولا تدعها تتوقد، فبكى الأسعد وقال: ما يقتل قبل إلا أنا، فقال الأمجد: الرأي أن تعتنقني وأعتنقك حتى ينزل السيف علينا فيقتلنا دفعة واحدة، فلما اعتنقا الاثنان وجهاً لوجه التزما ببعضهما، وشدهما الخازندار وربطهما بالحبال وهو يبكي، ثم جرد سيفه وقال: والله يا سيدي أنه يعز علي قتلكما فهل لكما من حاجة فأقضيها أو وصية فأنفذها أورسالة فأبلغها؟ فقال الأمجد: ما لنا حاجة، وأما من جهة الوصية فإني أوصيك أن تجعل أخي الأسعد من تحت وأنا من فوق لأجل أن تقع علي الضربة أولاً فإذا فرغت من قتلنا ووصلت إلى الملك وقال لك: ماسمعت منهما قبل موتهما فقل له: إن ولديك يقرآنك السلام ويقولان لك أنك لا تعلم هل هما بريئان أو مذنبان وقد قتلتهما وما تحققت منهما وما نظرت في حالهم ثم أنشد هذين البيتين:
                     إن النساء شياطين خلقن لـنـا           نعوذ بالله من كيد الشياطـين
                     فهن أصل البليات التي ظهرت          بين البرية في الدنيا وفي الدين
ثم قال الأمجد: ما نريد منك إلا أن تبلغه هذين البيتين، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة السابعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد قال للخازندار: ما نريد منك أن تبلغه إلا هذين البيتين اللذين سمعتهما وأسألك بالله أن تطول بالك علينا حتى أنشد لأخي هذين البيتين الأخرين ثم بكى بكاءً شديداً وجعل يقول:
                     في الـذاهـبـين الأولـين          من الملوك لنا بـصـائر
                     كم قد مضى في ذا الطريق      من الأكابر والأصـاغـر
فلما سمع الخازندار من الأمجد هذا الكلام بكى بكاءً شديداً حتى بل لحيته، وأما الأسعد فإنه تغرغرت عيناه بالعبرات وأنشد هذه الأبيات:
          الدهر يفجع بعد العـين بـالأثـر               فما البكاء على الأشباح والصـور
          فما الليالي أقال الله عـثـرتـنـا                من الليالي وخانتهـا يد الـغـدر
          فقد أضمرت كيدها لابن الزبير وما          رعت ليأذنه بالبيت والـحـجـر
          وليتها إذ ندت عمـراً بـخـارجة               فدت علياً بمن شاءت من البشـر
ثم خضب خده بدمعه المرار وأنشد هذه الأشعار:
               إن الليالي والأيام قد طـبـعـت          على الخداع وفيها المكر والحيل
               سراب كل نياب عندهـا شـئت          وهول كل ظلال عندها كحـل
                ذبني إلى الدهر فليكره سجيتـه          ذنب الحسام إذ ما أحجم البطـل
ثم صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
                  يا طالب الدنيا الـدنـيا إنـهـا           شرك الردى أو قرارة الأكدار
                  دار متى أضحكت في يومهـا         أبكت غداً تباً لـهـا مـن دار
                  غاراته لا تنقضي وأسـيرهـا          لا يفتدي بجلائل الأخـطـار
                  كم مزده بغروره حتـى غـدا           متفردا متجاوز الـمـقـدار
فلما فرغ الأسعد من شعره اعتنق أخاه الأمجد حتى صارا كأنهما شخص واحد وسل الخازندار سيفه وأراد أن يضربهما وإذا بفرسه جفل في البر وكان يساوي ألف دينار وعليه سرج عظيم يساوي جملة من المال، فألقى السيف من يده وذهب وراء فرسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار وقد التهب فؤاده وما زال يجري خلفه ليمسكه حتى دخل في غابة فدخل وراءه في تلك الغابة فشق الجواد في وسط الغابة ودق الأرض برجليه، فعلا الغبار وارتفع وثار فأما الفرس فإنه شخر ونخر وصهل وزمجر وكان في تلك الغابة أسد عظيم الخطر قبيح المنظر عيونه ترمي بالشرر له وجه عبوس وشكل يهول النفوس فالتفت الخازندار فرأى الأسد قاصداً إليه فلم يجد له مهرباً من يديه ولم يكن معه سيف فقال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما حصل لي هذا الضيق إلا بذنب الأمجد والأسعد وإن هذا السفرة مشؤومة من أوله، ثم إن الأمجد والأسعد قد حمي عليهما الحر فعطشا عطشاً شديداً، حتى نزلت ألسنتهما واستغاثا من العطش فلم يغثهما أحد، فقالا: يا ليتنا كنا قتلنا واسترحنا من هذا ولكن ما ندري أين جفل الحصان حتى ذهب الخازندار وراءه وخلانا مكتفين فلو جاءنا وقتلنا كان أريح لنا من مقاساة هذا العذاب. فقال الأسعد: يا أخي اصبر فسوف يأتينا فرج الله سبحانه وتعالى ن فإن الحصان ما جفل إلا لأجل لطف الله بنا وما ضرنا غير هذا العطش ثم هز نفسه وتحرك يميناً وشمالاً فانحل كتافه فقام وحل كتاف أخيه ثم أخذ سيف الخازندار وقال لأخيه: والله لا تبرح من هذا حتى نكشف خبره ونعرف ما جرى له وشرعا يقتفيان الأثر فدلهما على الغابة فقالا لبعضهما: إن الحصان والخازندار ما تجاوزا هذه الغابة. فقال الأسعد لأخيه: قف هنا حتى أدخل الغابة وأنظرها، فقال الأمجد: ما اخليك تدخل فيها وحدك وما ندخل إلا جميعنا فإن سلمنا سلمنا سواء وإن عطبنا عطبنا سواء، فدخل الاثنان فوجدا الأسد قد هاجم الخازندار وهو تحته كانه عصفور ولكنه صار يبتهل إلى الله ويشير إلى نحو السماء فلما رآه الأمجد أخذ السيف وهجم على الأسد وضربه بالسيف بين عينيه فقتله ووقع مطروحاً على الأرض فنهض الخازندار وهو متعجب من هذا الأمر فرأى الأمجد والأسعد ولدي سيده واقفين فترامى على أقدامهما وقال لهما: والله يا سيدي ما يصلح أن أفرط فيكما بقتلكما فلا كان من يقتلكما فبروحي أفديكما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار قال للأمجد والأسعد: بروحي أفديكما ثم نهض من وقته وساعته وأعتقهما وسألهما عن سبب فك وثاقهما وقدومهما فأخبراه أنهم عطشا وانحل الوثاق من أحدهما ففك الآخر بسبب خلوص نيتهما ثم إنهما اقتفيا الأثر حتى وصلا إليه، فلما سمع كلامهما شكرهما على ما فعلهما وخرج معهما إلى ظاهر الغابة، فقالا له: يا عم افعل ما امرك به أبونا. فقال: حاشا لله أن أصيبكما بضرر ولكن اعلما أني أريد أن أنزع ثيابكما وألبسكما ثيابي وأملأ قنينتين من دم الأسد ثم أروح إلى الملك وأقول له: إني قتلتهما، وأما أنتما فسيحا في البلاد وأرض الله واسعة واعلما يا سيدي أن فراقكما يعز علي، ثم بكى كل من الخازندار والغلامين وخلعا ثيابهما وألبسهما ثيابه وراح إلى الملك ود أخذ ذلك وربط قماش كل واحد منهما في بقجة معه وملأ القنينتين من دم الأسد وجعل البقجتين قدامه على ظهر الجواد ثم ودعهما وسارمتوجهاً إلى المدينة.و لم يزل سائراً حتى دخل على الملك وقبل الأرض بين يديه فرآه الملك متغير الوجه وذلك مما جرى له من الأسد فظن أن ذلك من قتل أولاده ففرح وقال له: هل قضيت على الشغل؟ قال: نعم يا مولانا، ثم ناوله البقجتين اللتين فيهما الثياب والقنينتين الممتلئتين بالدم فقال له الملك: ماذا رأيت منهما وهل أوصياك بشيء؟ قال: وجدتهما صابرين محتسبين لما نزل بهما وقد قالا لي: إن أبانا معذور فاقرئه منا السلام وقل له: أنت في حل من قتلنا ومن دمائنا ولكن نوصيك أن تبلغه هذين البيتين وهما:
                   إن النساء شياطين خلقن لـنـا        نعوذ بالله من كيد الشياطـين
                   فهن أصل البليات التي ظهرت      بين البرية في الدنيا وفي الدين
فلما سمع الملك من الخازندار هذا الكلام أطرق رأسه إلى الأرض ملياً وعلم أن كلام ولديه يدل على أنهما قد قتلا ظلماً ثم تفكر في مكر النساء ودواهيهن وأخذ النقجتين وفتحهما وصار يقلب ثياب أولاده ويبكي.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان لما فتح البقجتين صار يقلب ثياب أولاده وبكى فلما فتح ثياب ولده الأسعد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته بدور ومعها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها وفهم معناها فعل أن ولده الأسعد مظلوم ولما قلب ثياب الأمجد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته حياة النفوس وفيها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها فعلم أنه مظلوم فدق يداً على يد وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد قتلت أولادي ظلماً،ثم صار يلطم على وجهه ويقول: واولداه.. واطول حزناه، وأمر ببناء قبرين في بيت الأحزان وكتب على القبرين اسمي ولديه وترامى على قبر الأمجد وبكى وأن واشتكى وانشد هذه الأبيات:
                يا قمر قد غاب تحت الثـرى        بكت عليه الأنجم الزاهـرة
                يا قضياً لـم يمـس بـعـده            معاطف للأعين النـاظـرة
                منعت عينيي عنك من غيرتي       علـيك لا أراك لـلآخـرة
                وأغرقت بالسهد في دمها           وإنني من ذاك بالعاهرة
ثم ترامى على قبر الأسعد وبكى وأن واشتكى وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
             قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى      لكن الـلـه أراد غـير الـردى
             سودت ما بين الفضاء وناظـري        ومحوت من عيني كـل سـواد
             لا ينفذ الدمع الذي أبـكـي بـه           إن الـفـؤاد لـه مـن الأمـداد
              أعز علي بأن أراك بمـرضـع          متشابـه الأوغـاد والأمـجـاد
و لما فرغ من شعره هجر الأحباب والخلان وانقطع في البيت الذي سماه بيت الأحباب وصار يبكي على أولاده وقد هجر نسائه وأصحابه وأصدقائه. هذاما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الأمجد والأسعد فإنهما لم يزالا سائران في البرية وهما يأكلان من نبات الأرض ويشربان من متحصلات الأمطار مدة شهر كامل حتى انتهى بهما المسير إلى جبل من الصوان الأسود لا يعلم أين منتهاه والطريق افترقت عند ذلك الجبل طريقين، طريق تشقه من وسطه وطريق ساعده إلى أعلاه فسلكا الطريق التي في أعلى الجبل واستمرا سائران خمسة أيام فلم يرله منتهى وقد حصل لهما الإعياء من التعب وليسا معتادين على المشي في جبل ولا في غيره ولما يئسا من الوصول إلى منتهاه رجعا وسلكا الطريق التي في وسط الجبل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد والأسعد ولدي قمر الزمان لم عادا من الطريق الصاعدة في الجبل إلى الطريق المسلوكة في وسطه مشيا طول النهار إلى الليل وقد تعب الأسعد من كثرة السير فقال له لأخيه: يا أخي أنا ما بقيت أقدر على المشي فإني ضعفت جداً، فقل له الأمجد: يا أخي شد حيلك لعل الله يفرج عنا، ثم إنهما مشيا ساعة من الليل وقد تعب الأسعد تعباً شديداً ما عليه من مزيد وقال: يا أخي إني تعبت وكليت من المشي، ثم وقع في الأرض وبكى فخمله أخوه الأمجد ومشى به وصار ساعة يمشي وساعة يستريح إلى أن لاح الفجر حتى استراح أخوه فطلع هو وإياه فوق الجبل فوجد عيناً نابعة يجري منها الماء وعندها شجرة رمان ومحراب فما قصدا أنهما يريان ذلك، ثم جلسا عند تلك العين وشربا من مائها وأكلا من رمان تلك الشجرة وناما في ذلك الموضع حتى طلعت الشمس ثم جلسا واغتسلا من العين وأكلا من الرمان الذي في الشجرة وناما إلى العصر وأرادا أن يسيرا فما قدر الأسعد على السير وقد ورمت رجلاه فأقاما هناك ثلاثة أيام حتى استراحا، ثم سارا في الجبل مدة أيام وهما سائران فوق الجبل وقد تعبا من العطش إلى أن لاحت لهما مدينة من بعيد ففرحا وسارا حتى وصلا إليها.
فلما قربا منها شكرا الله تعالى وقال الأمجد للأسعد: يا أخي اجلس هنا وأنا أسير إلى هذه المدينة وأنظر ما شأنها وأسأل عن أحوالها لأجل أن نعرف أين نحن من أرض الله الواسعة ونعرف الذي قطعناه من البلاد في عرض هذا الجبل ولو أننا مشينا في وسطه ما كنا نصل إلى هذه المدينة في سنة كاملة، فالحمد لله على السلامة، فقال له الأسعد: والله يا أخي ما يذهب إلى المدينة غيري وأنا فداؤك، فإنك إن تركتني ونزلت وغبت عني تستغرقني الأفكار من أجلك وليس لي قدرة على بعدك عني، فقال له الأمجد: توجه ولا تبطئ، فنزل السعد من الجبل وأخذ معه دنانير وخلى أخاه ينتظره وسار ماشياً إلى أسفل الجبل حتى دخل المدينة وشق في أزقتها فلقيه رجل كبير طاعن في السن وقد نزلت لحيته على صدره وافترقت فرقتين وبيده عكاز وعليه ثياب فاخرة وعلى رأسه عمامة كبيرة حمراء، فلما رآه الأسعد تعجب من لبسه وهيئته وتقدم إليه وسلم عليه وقال له: أين طريق السوق يا سيدي؟ فلما سمع الشيخ كلامه تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب؟ فقال له الأسعد: نعم أنا غريب يا عم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الذي لقي الأسعد تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب؟ فقال له الأسعد: نعم غريب، فقال له الشيخ: قد آنست ديارنا وأوحشت ديار أهلك فما الذي تريده من السوق؟ فقال الأسعد: يا عم إن لي أخاً تركته في الجبل ونحن مسافران من بلاد بعيدة ولنا في السفر مدة ثلاثة شهور وقد أشرفنا على هذه المدينة فجئت إلى هنا لأشتري طعاماً وأعود به إلى أخي لأجل أن نقتات به، فقال الشيخ له: يا ولدي أبشر بكل خير واعلم أنني عملت وليمة وعندي ضيوف كثيرة وجمعت فيها من أطيب الطعام وأحسنه ما تشتهيه النفوس فهل لك أن تسير معي إلى مكاني فأعطيك ما تريد ولا آخذ منك ثمناً وأخبرك بأحوال هذه المدينة والحمد لله يا ولدي حيث وقعت بك ولم يقع بك أحد غيري. فقال الأسعد افعل ما أنت آملهو عجل فإن أخي ينتظرني وخاطره عندي، فأخذ الشيخ بيد الأسعد ورجع به إلى زقاق ضيق وصار يبتسم في وجهه ويقول له: سبحان من نجاك من أهل هذه المدينة، ولم يزل ماشياً به حتى دخل داراً واسعة وفيها قاعة جالساً فيها أربعون شيخاً طاعنون في السن وهم مصطفون حلقة وفي وسطهم نار موقدة والمشايخ جالسون حولها يعبدونها ويسجدون لها، فلما رأى ذلك الأسعد اقشعر بدنه ولم يعلم ما خبرهم، ثم إن الشيخ قال لهؤلاء الجماعة: يا مشايخ النار ما أبركه من نهار، ثم نادى قائلاً يا غضبان، فخرج عبد أسود بوجه أعبس وأنف أفطس وقامة مائلة وصورة هائلة ثم أشار إلى العبد فشد وثاق الأسعد. وبعد ذلك قال للعبد: انزل به إلى القاعة التي تحت الأرض واتركه هناك وقل للجارية الفلانية تتولى عذابه بالليل والنهار، فأخذه العبد وأنزله تلك القاعة وسلمه إلى الجارية فصارت تتولى عذابه وتعطيه رغيفاً واحداً في أول النهار ورغيفاً واحداً في أول الليل وكوز ماء مالح في الغداة ومثله في العشاء ثم إن المشايخ قالوا لبعضهم: لما يأتي أوان عيد النار نذبحه على الجبل ونتقرب به إلى النار، ثم إن الجارية نزلت إليه وضربته ضرباً وجيعاً حتى سالت الدماء من أعضائه وغشي عليه، ثم حطت عند رأسه رغيفاً وكوز ماء مالح وراحت وخلته فاستفاق في نصف الليل فوجد نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب فبكى بكاءً شديداً وتذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما رأى نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب تذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة فبكى وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
                     قفوا برسم الدار واستخبروا عنها         تحسبونا في الديار كما كـنـا
                     لقد فرق الدهر المشتت شملنـا           وهنا تشتفي أكبادحسادنا مـنـا
                     تولت عذابي بالـسـياط لـئيمة            وقد ملئت منها جوانحي طعنـا
                    عسى ولعل الله يجمع شملـنـا            ويدفعوا بالتنكيل أعداءنا عـنـا
فلما فرغ الأسعد من شعره مد يده فوجد رغيفاً وكوز ماء مالح فأكل قليلاً ليسد رمقه وشرب قليلاً من الماء ولم يزل ساهراً إلى الصباح من كثرة البق والقمل فلما أصبح الصباح جاءت إليه الجارية ونزعت عنه ثيابه وكانت قد غمرت بالدم والتصقت بجلده وهو مقيد في الحديد بعيداً عن الأحباب فتذكرأخاه والعز الذي كان فيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد تذكرأخاه والعز الذي كان فيه وأن واشتكى وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
               يا دهر كم تجـور وتـعـتـدي           ولكم بأحبابي تروح وتعـتـدي
              ما آن أن ترثي لطول تشتـتـي         وترق يا من قلبه كالجـلـمـد
             وأسأت أحبابي بما أشمـت بـي         كل العداة بما صنعت من الردي
             وقد اشتفى قلب العدو بمـا رأى        من غربتي وصبابتي وتوحـدي
              لم يكفه ما حل بي مـن كـربة          وفراق أحبابي وطرف أرمدي
             حتى بليت بضيق سجن ليس لي        فيه أنيس غير عضـي بـالـيد
             ومدامع تهمي كفيض سحـائب         وغليل شوق ناره لم تـخـمـد
             وكآبة وصبـابة وتـذكـر               وتحسر وتنفس وتـنـهـد
             شوق أكابده وحزن متلـف             ووقعت في وجد مقيم مقعد
فلما فرغ من شعره ونثره حن وبكى وأن واشتكى وتذكر ما كان فيه من وما حصل له من فراق أخيه. هذا ما كان من أمره، وأمام ما كان من أمر أخيه الأمجد فإنه مكث ينتظر الأسعد إلى نصف النهار فلم يعد إليه فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق وأفاض دمعه المهراق.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد لما مكث ينتظر الأسعد إلى نصف النهار فلم يعد إليه فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق وأفاض دمعه المهراق وصاح واحسرتاه ما كان اخوفني من الفراق ثم نزل من فوق الجبل ودمعه سايل على خديه ودخل المدينة ولم يزل ماشياً فيها حتى وصل إلى السوق وسأل الناس عن اسم هذه المدينة وعن أهلها فقالوا له: هذه تسمى مدين المجوس وأهلها يعبدون النار دون الملك الجبار، ثم سأل عن مدينة فقالوا له: إن المسافة التي بيننا وبينها من الب سنة ومن البحر ستة أشهر وملكها يقال له أرمانوس وقد صاهر اليوم ملكاً وجعله مكانه وذلك الملك يقال له قمر الزمان وهو صاحب عدل وإحسان وجود وأمان.
فلما سمع الملك الأمجد ذكر أبيه حن وبكى وأن واشتكى وصار لا يعلم أين يتوجه وقد اشترى معه شيئاً للأكل وذهب إلى موضع يتوارى فيه ثم قعد وأراد أن يأكل فتذكر أخيه فبكى ولم يأكل إلا قدر سد الرمق ثم قام ومشى في المدينة ليعلم خبر أخيه فوجد رجلاً مسلماً خياطاً في دكان فجلس عنده وحكى له قصته فقال الخياط: إن كان وقع في يد أحد المجوس فما بقيت تراه إلا بعسر ولعل الله يجمع بينك وبينه ثم قال: هل لك يا أخي أن تنزل عندي؟ قال: نعم. ففرح الخياط بذلك وأقام عنده أياماً وهو يسليه ويصبره ويعلمه الخياطة حتى صار ماهراً ثم خرج يوماً إلى شاطئ البحر وغسل أثوابه ودخل الحمام ولبس ثياباً نظيفة ثم خرج من الحمام يتفرج في المدينة فصادف في طريقه امرأة ذات حسن وجمال وقد واعتدال ليس لها في الحسن مثال فلما رأته رفعت القناع عن وجهها وغمزته بحواجبها وعيونها وغازلته باللحظات وقد لعبت به أيادي الصبابات فأشار لها وأنشد هذه الأبيات:
                ورد الخدود ودونه شوك الـقـنـا           فمن المحدث نفسه أن يجـتـنـي
               لا تمدد الأيدي إلـيه فـطـالـمـا            شنوا الحروب لأن مددنا الأعـينـا
               قل للتي ظلمت وكـانـت فـتـنة            ولو أنها عدلت لكانـت أفـتـنـا
               ليزاد وجهك بالـتـبـرقـع ضـلة            وأرى السفور لمثل حسنك أصونـا
              كالشمس يمتنع اجتلاءك وجهـهـا          وإن اكتست برقيق غيم أمـكـنـا
              غدت النحيلة في حمى من نحلـهـا         فسلوا حماة الحي عـم تـصـدنـا
              إن كان قتلي قصدهم فلـيرفـعـوا           تلك الضغائن وليخـلـوا بـينـنـا
              ما هم بأعظم فتـكة لـو بـارزوا            من طرف ذات الخال إذا برزت لنا
فلما سمعت من الأمجد هذا الشعر تنهدت بصاعد الزفرات وأشارت وأشارت إليه وأنشدت هذه الأبيات:
            أنت الذي سلك الإعراض لست أنـا       جسد بالوصال إذا كان الوفاء أنـا
            يا فالق الصبح مـن لالاء غـرتـه         وجاعل الليل من أصداغه سكـنـا
            بصورة الوثن استعبدتنـي وبـهـا          فتنتني وقديماً هجت لـي فـتـنـا
            لا غرو إن أحرقت نار الهوى كبدي      فالنار حق على من يعبد الوثـنـا
            تبيع مثلي مـجـانـاً بـلا ثـمـن             إن كان لا بد من بيع فخذ الثمـنـا
فلما سمع الأمجد منها هذا الكلام قال لها: أتجيئين عندي أو أجيء عندك؟ فأطرقت رأسها حياء إلى الأرض وتلت قوله تعالى:الرجال قوامون على النساء بما فضل بعضهم على بعض ففهم الأمجد إشارتها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد فهم إشارة المرأة وعرف أنها تريد الذهاب معه حيث يذهب فالتزم لها بالمكان وقد استحى أن يروح عند الخياط الذي هو عنده فمشى قدامها ومشت خلفه ولم يزل ماشياً بها من زقاق إلى زقاق ومن موضع إلى موضع حتى تعبت الصبية فقالت له: يا سيدي أين دارك؟ فقال لها: قدام وما بقي عليها إلا شيء يسير ثم انعطف بها في زقاق مليح ولم يزل ماشياً فيه وهي خلفه حتى وصلا إلى آخره فوجده غير نفاذ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم التفت بعينه فرأى في صدر الزقاق باباً كبيراً بمصطبتين ولكنه مغلق فجلس الأمجد على مصطبة وجلست المرأة على مصطبة، ثم قالت له: يا سيدي ما الذي تنتظره؟ فأطرق برأسه إلى الأرض ملياً ثم رفع رأسه وقال لها: أنتظر مملوكي فإن المفتاح معه وكنت قد قلت له: هيء لنا المأكول والمشروب وصحبة المدام حتى أخرج من الحمام ثم قال في نفسه: ربما يطول عليها المطال فتروح إلى حال سبيلها وتخليني في هذا المكان فلما طال عليها الوقت قالت له: يا سيدي إن المملوك قد أبطأ علينا ونحن قاعدون في الزقاق، ثم قامت الصبية إلى الضبة بحجر فقال لها الأمجد: لا تعجلي واصبري حتى يجيء المملوك، فلم تسمع كلامه ثم ضربت الضبة بالحجر فقسمتها نصفين فانفتح الباب فقال لها: وأي شيء خطر لك حتى فعلت هذا؟ فقالت له: يا سيدي أي شيء جرى أما هو بيتك؟ فقال: نعم، ولكن لا يحتاج إلى كسر الضبة، ثم إن الصبية دخلت البيت فصار الأمجد متحيراً في نفسه خوفاً من أصحاب المنزل ولم يدر ماذا يصنع، فقالت الصبية: لم لا تتدخل يا سيدي يا نور عيني وحشاشة قلبي؟ فقال لها: سمعاً وطاعة ولكن قد أبطأ علي المملوك وما أدري هل فعل شيئاً مما امرته به أم لا، ثم إنه دخل معها وهو غاية ما يكون من الهم خوفاً من أصحاب المنزل، فقالت: يا سيدي مالك واقفاً هكذا؟ ثم شهقت شهقة وأعطت الأمجد قبلة مقل كسر الجوز وقالت: يل سيدي إن كنت مواعد غيري فإني أشد ظهري وأخدمها فضحك الأمجد عن قلب مملوء بالغيظ ثم طلع وجلس وهو ينفخ وقال في نفسه: يا قبلة الشوم إذا جاء صاحب المنزل.
فبينما هو كذل إذا بصاحب الدار قد جاء وكان مملوكاً من أكابر المدينة لأنه كان أمير ياخو عند الملك وقد جعل تلك القاعة معدة لحظه لينشرح به صدره ويختلي فيها بمن يريد وكان في ذلك اليوم قد أرسل إلى معشوق يجيء له ويجهز له ذلك المكان وكان اسم ذلك المملوك بهادر وكان سخي اليد صاحب جود وإحسان وصدقات وامتنان فلما وصل إلى قريب القاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر صاحب القاعة لما وصل إلى قريب القاعة وجد الباب مفتوحاً فدخل قليلاً قليلاً، وطل برأسه فنظر الأمجد والصبية وقدامهما طبق فاكهة وآلة المدام وفي ذلك الوقت كان الأمجد ماسكاً قدحاً وعينيه إلى الباب، فلما صارت عينه في عين صاحب الدار اصفر لونه وارتعدت فرائصه فلما رآه بهادر وقد اصفر لونه وتغير حاله غمزه بإصبعه على فمه يعني أسكت وتعال عندي، فحط الأمجد الكأس من يده وقام إليه فقالت الصبية: إلى أين؟ فحرك رأسه وأشار لها أنه يريد الماء، ثم خرج إلى الدهليز خافياً، فلما رأى بهادر علم أنه صاحب الدار فأسرع إليه وقبل يديه ثم قال له: بالله عليك يا سيدي قبل أن تؤذيني اسمع مني مقالي، ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره وأخبره بسبب خروجه من أرضه ومملكته وأنه ما دخل القاعة باختياره ولكن الصبية هي التي كسرت الضبة وفتحت الباب وفعلت هذه الفعال، فلما سمع بهادر كلام الأمجد وعرف أنه ابن ملك حن عليه ورحمه، ثم قال: اسمع يا أمجد كلامي وأطعني وأنا أتكفل لك بالأمان مما تخاف وإن خالفتني قتلتك. فقال الأمجد: آمرني بما شئت فأنا لا أخالفك أبداً لأنني عتيق مرؤتك، فقال له بهادر: ادخل إلى هذه القاعة واجلس في المكان الذي كنت فيه واطمئن وهاأنا داخل عليك واسمي بهادر فإذا دخلت إليك فاشتمني وانهرني وقل لي: ما سبب تأخرك إلى هذا الوقت ولا تقبل لي عذراً بل قم اضربني. وإن شفقت علي أعدمتك حياتك، فادخل وانبسط ومهما طلبته مني تجده حاضراً بين يديك في الوقت وبت كما تحب في هذه الليلة وفي غد توجه إلى حال سبيلك إكراماً لغربتك فإني أحب الغريب وواجب علي إكرامه، فقبل الأمجد يده ودخل وقد اكتسى وجهه حمرة وبياضاً فأول ما دخل قال للصبية: يا سيدتي آنست موضعك وهذه ليلة مباركة، فقالت له الصبية: إن هذا عجيب منك حيث بسطت لي الأنس، فقال الأمجد: والله يا سيدتي إني كنت أعتقد أن مملوكي بهادر أخذ لي عقود جواهر كل عقد يساوي عشرة آلف دينار، ثم خرجت الآن وأنا متفكر في ذلك ففتشت عليها فوجدتها في موضعها، ولأم أدر ما سبب تأخر المملوك إلى هذا الوقت ولابد لي من عقوبته، فاستراحت الصبية بكلام الأمجد ولعبا وشربا وانشرحا ولم يزالا في حظ إلى قريب المغرب، ثم دخل عليهما بهادر وقد غير لبسه وشد وسطه وجعل في رجليه زرنوباً على عادة المماليك، ثم سلم وقبل الأرض وكتف يديه وأطرق برأسه إلى الأرض، كالمعترف بذنبه فنظر إليه الأمجد بعين الغضب وقال له: ما سبب تأخرك يا أنحس المماليك؟ فقال له: يا سيدي إني اشتغلت بغسل أثوابي وما علمت أنك ههنا فإن ميعادي وميعادك العشاء لا بالنهار، فصرخ الأمجد وقال له: تكذب يا أخس المماليك والله لا بد من ضربك، ثم قام الأمجد وسطح بهادر على الأرض وأخذ عصا وضربه برفق فقامت الصبية وخلصت العصا من يده ونزلت بها على بهادر بضرب وجيع حتى جرت دموعه واستغاث وصار يكز على أسنانه والأمجد يصيح على الصبية: لا تفعلي هكذا، وهي تقول له: دعني أشفي غيظي، ثم إن الأمجد خطف العصا من يدها ودفعها فقام بهادر ومسح دموعه عن وجهه ووقف في خدمته ساعة ثم مسح القاعة وأوقد القناديل وصارت الصبية كلما دخل بهادر وخرج تشتمه وتلعنه والأمجد يغضب عليها ويقول لها: بحق الله تعالى أن تتركي مملوكي فإنه غير معهود بهذا وما زالا يأكلان ويشربان، وبهادر في خدمتهما إلى نصف الليل حتى تعب من الخدمة والضرب فنام في وسط القاعة وشخر ونخر. فسكرت الصبية وقالت للأمجد: قم خذ هذا السيف المعلق واضرب رقبة هذا المملوك وإن لم تفعل ذلك عملت أنا على هلاك روحك، فقال الأمجد: وأي شيء خطر لك أن أقتل مملوكي؟ قالت: لا يكمل الحظ إلا بقتله وإن لم تقم قمت أنا وقتلته، فقال الأمجد: بحق الله عليك أن لا تفعلي، فقالت: لا بد هذا وأخذت السيف وجردته وهمت بقتله فقال الأمجد في نفسه: هذا رجل عمل معنا خيراً وسترنا وأحسن إلينا وجعل نفسه مملوكاً فأنا أحق بقتله منك ثم أخذ السيف من يدها ورفع يده وضرب الصبية في عنقها فأطاح رأسها عن جثتها فوقع رأسها على صاحب الدار فاستيقظ وجلس وفتح عينيه فوجد الأمجد واقفاً والسيف في يده مخضباً بالدم، ثم نظر إلى الصبية فوجدها مقتولة فاستخبره عن أمرها فاعاد عليه حديثها وقال له إنها أبت إلا أن تقتلك وهذا جزاؤها، فقام بهادر وقبل رأس الأمجد أطاحو قال له: يا سيدي ليتك عفوت عنها وما بقي في الأمر إلا إخراجها في هذا الوقت قبل الصباح ثم إن بهادر شد وسطه وأخذ الصبية ولفها في عباءة ووضعها في فرد وحملها، وقال للأمجد: أنت غريب ولا تعرف أحد فاجلس في مكانك وانتظر طلوع الشمي فإن عدت إليك لا بد أن أفعل معك خيراً كثيراً وأجتهد في كشف خبر أخيك وإن طلعت الشمس، ولم أعد إليك فاعلم أنه قد قضي علي والسلام عليك، وهذه الدار لك بما فيها من الأموال والقماش.
ثم إنه حمل الفرد وخرج من القاعة وشق بها الأسواق وقصد بها طريق البحر المالح ليرميها فيه فلما صار قريباً من البحر التفت فرأى الوالي والمقدمين قد أحاطوا به ولما عرفوه تعجبوا وفتحوا الفرد فوجدوا فيه قتيلة فقبضوا على عليه وبيتوه في الحديد إلى الصباح ثم طلعوا به هو والفرد إلى الملك وأعلموه بالخبر فلما رأى الملك غضب غضباً شديداً وقال له: ويلك إنك تفعل هكذا دائماً فتقتل القتلى وترميهم في البحر وتأخذ جميع مالهم وكم فعلت ذلك من قتل؟ فأطرق بهادر برأسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر أطرق برأسه إلى الأرض قدام الملك فصرخ الملك وقال له: ويلك من قتل هذه الصبية؟ فقال له: يا سيدي أنا قتلتها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فغضب الملك وأمر بشنقه فنزل به السياف حين أمره الملك وأمر الوالي المنادي أن ينادي في أزقة المدينة بالفرجة على بهادر أمير ياخور الملك ودار به في الأزقة والأسواق، هذا ما كان من أمر بهادر.
و أما ما كان من أمر الأمجد فإنه لما طلع عليه النهار وارتفعت الشمس ولم يعد إليه بهادر قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أي شيء جرى له؟ فبينما هو يتفكر إذا بالمنادي ينادي بالفرجة على بهادر فإنهم يشنقونه في وسط النهار فلما سمع الأمجد ذلك بكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد أراد هلاك نفسه من أجلي وانا الذي قتلتها والله لا كان هذا أبداً، ثم خرج من القاعة وقفلها وشق في وسط المدينة حتى أتى إلى بهادر، ووقف قدام الوالي وقال له: يا سيدي لا تقتل بهادر فإنه بريء والله ما قتلها إلا أنا فلما سمع الوالي كلامه أخذه هو وبهادر وطلع بهما إلى الملك وأعلمه بما سمعه من الأمجد فنظر الملك إلى الأمجد وقال له: أنت قتلت الصبية؟ قال: نعم، فقال له الملك: احك لي ما سبب قتلك إياها وأصدقني ن قال له: أيها الملك أنه جرى لي حديث عجيب وأمر غريب لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، ثم حكى للملك حديثه وأخبره بما جرى له ولأخيه من المبتدأ إلى المنتهى فتعجب الملك من ذلك غاية العجب، وقال: إني قد علمت أنك معذور ولكن يا فتى هل لك أن تكون عندي وزيراً؟ فقال له: سمعاً وطاعة، وخلع عليه الملك وعلى بهادر خلعاً سنية وأعطاه داراً حسنة وحشماً وأنعم عليه بجميع ما يحتاج إليه ورتب له الرواتب والجرايات وأمره أن يبحث عن أخيه الأسعد فجلس الأمجد في رتبة الوزارة وحكم وعدل وعزل وأخذ وأعطى وأرسل المنادي في أزقة المدينة ينادي على أخيه الأسعد فمكث مدة أيام ينادي في الشوارع والأسواق فلم يسمع له بخبر ولم يقع له على أثر. هذا ما كان من أمر الأمجد. و أما ما كان من أمر الأسعد فإن المجوس ما زالوا يعاقبونه بالليل والنهار وفي العشي والأبكار مدة سنة كاملة حتى قرب عيد المجوس وهيأ له مركباً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهرام المجوسي جهز مركباً للسفر، ثم حط الأسعد في صندوق وأقفله عليه ونقله إلى المركب وسافروا ولم يزالوا مسافرين أياماً وليالي وكل يومين يخرج الأسعد ويطعمه قليلاً من الزاد ويسقيه قليلاً من الماء إلى أن قربوا من جبل النار فخرج عليهم ريح وهاج بهم البحر حتى تاه المركب عن الطريق وسلكوا طريقاً غير طريقهم ووصلوا إلى مدينة مبنية على شاطئ البحر ولها قلعة بشبابيك تطل على البحر والحاكمة على تلك المدينة امرأة يقال لها الملكة مرجانة فقال الريس لبهرام: يا سيدي إننا تهنا عن الطريق ولا بد لنا من دخول هذه المدينة لأجل الراحة وبعد ذلك يفعل الله ما يشلء. فقال له بهرام: ما رأيت والذي تراه افعله فقال له الريس: إذا أرسلت لنا الملكة تسألنا ماذا يكون جوابنا؟ فقال له بهرام: أنا عندي هذا المسلم الذي معنا فنلبسه لبس المماليك ونخرجه معنا إذا رأته الملكة تظن أنه مملوك، فأقول لها إني جلاب مماليك، أبيع وأشتري فيهم وقد كان عندي مماليك كثيرة فبعتهم ولم يبق غير هذا المملوك فقال له الريس ك هذا كلام مليح، ثم إنهم وصلوا إلى المدينة وأرخوا القلوع ودقوا المراسي، وإذا بالملكة وإذا بالملكة مرجانة نزلت إليهم ومعها عسكرها ووقفت على المركب ونادت على الريس فطلع عندها وقبل الأرض بين يديها. فقالت له: أي شيء في مركبك هذه ومن معك؟ فقال لها: يا ملكة الزمان معي رجل تاجر يبيع المماليك فقالت: علي به، وإذا ببهرام طلع ومعه الأسعد ماش وراءه في صفة مملوك فلما وصل إليهم بهرام قبل الأرض بين يديها فقالت له: ما شأنك؟ فقال لها: أنا تاجر رقيق فنظرت إلى الأسعد فحن قلبها عليه فقالت: أتعرف الكتابة؟قال: نعم فناولته دواة وقلماً وقرطاساً وقالت له: اكتب شيئاً حتى أراه فكتب هذي البيتين:  
                 ما حيلة العبد والأقدار جـارية     عليه في مكل حال إيها الرائي
                 ألقاه في اليم مكتوفاً وقال لـه      إياك إياك أن تبتل بـالـمـاء
فلما رأت الورقة رحمته ثم قالت لبهرام: بعني هذا المملوك فقال لها: يا سيدتي لا يمكنني بيعه لأني بعت جميع مماليكي ولم يبق عندي غير هذا، فقالت الملكة مرجانة: لا بد من أخذه منك إما ببيع أو بهبة، فقال لها: لا أبيعه ولا أهبه فقبضت على الأسعد وأخذت وطلعت به القلعة وأرسلت تقول له: إن لم تقلع في هذه الليلة عن بلدنا أخذت جميع مالك، وكسرت مركبك فلما وصلت إليه الرسالة اغتم غماً شديداً، وقال: هذه سفرة غير محمودة ثم قام وتجهز وأخذ جميع ما يريده وانتظر الليل ليسافر فيه وقال للبحرية: خذوا أهبتكم واملأوا قربكم من الماء واقلعوا بنا في آخر الليل، فصار البحرية يقضون أشغالهم. هذا ما كان من أمرهم.
و اما ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها أخذت الأسعد ودخلت القلعة وفتحت الشبابك المطلة على البحر وأمرت الجواري أن يقدمن لهم الطعام فقدمن لهم الطعام فأكلا ثم أمرتهن أن يقدمن المدام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة مرجانة أمرت الجواري أن يقدمن المدام فقدمنه فشربت مع الأسعد وألقى الله سبحانه وتعالى محبة الأسعد في قلبهخا وصارت تملأ القدح وتسقيه حتى غاب عقله فقام يريد قضاء حاجة ونزل من القاعة فرأى باباً مفتوحاً فدخل فيه وتمشى فانتهى به السير إلى بستان عظيم فيه جميع الفواكه والأزهار فجلس تحت شجرة وقضى حاجته وقام إلى الفسقية التي في البستان فاستلقى على قفاه ولباسه محلول، فضربه الهواء فنام ودخل عليه الليل. هذا ما كان من أمره. وأما ما كان من أمر بهرام فإنه لما دخل عليه الليل صاح على بحرية المركب وقال له: خلوا قلوعكم وسافروا بنا فقالوا سمعاً وطاعة، ولكن اصبر علينا حتى نملأقربنا ونحل، ثم طلع البحرية بالقرب وداروا حول القلعة، فلم يجدوا غير حيطان البستان فتعلقوا بها ونزلوا البستان وتتبعوا أثر الأقدام الموصلة إلى الفسقية فلما وصلوا وجدوا الأسعد مستلقياً على قفاه فعرفوه، وفرحوا به وحملوه بعد أن ملأوا قربهم ونطوا من الحائط وأتوا به مسرعين إلى بهرام المجوسي، وقالوا له: أبشر بحصول المراد وشفاء الأكباد فقد طبل طبلك وزمر زمرك فإن أسيرك الذي أخذته الملكة مرجانة منك غصباً قد وجدناه واتينا به معنا ثم رموه قدامه. فلما نظره بهرام طار قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح، ثم خلع عليهم وأمرهم أن يحلوا القلوع بسرعة فحلوا قلوعهم قاصدين جبل النار ولم يزالوا مسافرين إلى الصباح. هذا ماكان من أمرهم.
و ام ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها بعد نزول الأسعد من عندها مكثت تنتظره ساعة فلم يعد إليها فقامت وفتشت عليه فما وجدته فأوقدت الشموع وامرت الجواري أن يفتشن عليه ثم نزلت هي بنفسها فرأت البستان مفتوحاً فعلمت أنه دخله فدخلت البستان فوجدت نعله بجانب الفسقية فصارت تفتش عليه في جوانب البستان إلى الصباح ثم سألت عن المراكب فقالوا لها: قد سافرت في ثلث الليل، فعلمت أنهم أخذوه معهم فصعب عليها واغتاظت غيظاً شديداً ثم أمرت بتجهيز عشر مراكب في الوقت وتجهيزات الحرب ونزلت في مركب من العشر مراكب ونزل معها عسكرها متهيئين بالعدة الفاخرة وآلات الحرب وحلوا القلوع وقالت للرؤساء: متى لحقتم مركب المجوسي فلكم عندي الخلع والأموال، وإن لم تلحقوها قتلتكم عن آخركم فحصل للبحرية خوف عظيم، ثم سافروا بالمراكب ذلك النهار وتلك الليلة وثاني يوم وثالث يوم، وفي اليوم الرابع لاحت لهم مركب بهرام ولم ينقض النهار حتى أحاطت المراكب بمركب المجوسي وكان بهرام في ذلك الوقت قد أخرج الأسعد وضربهو صار يعاقبه والأسعد يستغيث ويستجير فلم يجد مغيثاً ولا مجيراً من الخلق وقد آلمه الضرب الشديد.
فبينما هو يعاقبه إذ لاحت منه نظرة فوجد المراكب قد أحاطت بمركبه ودارت حولها كما يدور بياض العين بسوادها فتيقن أنه هالك لا محالة فتحسر بهرام وقال: ويلك يا أسعد هذا كله من تحت رأسك، ثم أخذه من يده وامر البحرية أن يرموه في البحر، وقال: والله لأقتلنك قبل موتي فاحتملته البحرية من يديه ورجليه ورموه في وسط البحر فأذن الله سبحانه وتعالى لما يريد من سلامته وبقية أجله أنغطس، ثم طلع وخبط بيديه ورجليه إلى أنسهل الله عليه وآتاه الفرج وضربه الموج وقذفه بعيداً عن مركب المجوسي ووصل إلى البر فطلع وهو لايصدق بالنجاة ولما صار في البر قلع أثوابه وعصرها ونشرها وقعد عرياناً يبكي على ما جرى له من المصائب والأسر، ثم أنشد هذين البيتين:  
              إلهي قل صبـري واحـتـيالـي        وضاق صدري وانصرمي حبالي
              إلى من يشتكي المـسـكـين إلا       إلى مولاه يا مولى الـمـوالـي
فلما فرغ من شعره قام ولبس ثيابه ولم يعلم أين يروح ولا أين يجيء فصلر يأكل من نبات الأرض وفواكه الأشجار ويشرب من ماء الأنهار وسافر بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة ففرح وأسرع في مشيته نحو المدينة فلما وصل إليها أدركه المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما وصل إلى المدينة أدركه المساء وقد قفل بابها وكانت هي التي كان أسيراً فيها وأخوه الأمجد وزير ملكها فلما رآها الأسعد مقفلة رجع إلى جهة المقابر فلما وصل إلى المقابر وجد تربة بلا باب فدخلها ونام فيها فحط وجهه في غيه وكان بهرام المجوسي لما وصلت إليه الملكة مرجانة بالمراكب كسرها بمكره وسحره ورجع سالماً نحو مدينته وسار من وقته وساعته وهو فرحان فلما جاز على المقابر طلع من المركب بالقضاء والقدر ومشى بين المقابر فرأى التربة التي فيها الأسعد مفتوحة فتعجب وقال: لا بد أن أنظر في هذه التربة. فلما نظر فيها رأى الأسعد وهو نائم ورأسه في عبه فنظر في وجهه فعرفه فقال في نفسه: هل أنت تعيش إلى الآن؟ ثم أخذه وذهب به إلى بيته وكان له في بيته طابق تحت الأرض معد لعذاب المسلمين وكان له بنت تسمى بستان فوضع في رجلي الأسعد قيداً ثقيلاً وأنزله في ذلك الطابق ووكل بنته بتعذيبه ليلاً ونهاراً إلى أن يموت ثم إنه ضربه الضرب الوجيع وأقفل عليه الطابق وأعطى المفاتيح لبنته ثم إن بنته بستان نزلت لضربه فوجدته شاباً ظريف الشمال حلو المنظر مقوس الحاجبين كحيل المقلتين فوقعت محبته في قلبها فقالت له: ما اسمك؟ قال لها: اسمي الأسعد، فقالت له: سعدت وسعدت أيامك أنت ما تستاهل العذاب وقد علمت أنك مظلوم وصارت تؤانسه بالكلام وفكت قيوده ثم غنها سألته عن دين الإسلام فأخبرها أنه هو الدين الحق القويم أن سيدنا محمد صاحب المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وأن النار تضر ولا تنفع وعرفها قواعد الإسلام، فأذعنت إليه ودخل حب الإيمان في قلبها ومزج الله محبة الأسعد بفؤادها فنطقت الشهادتين وصارت من أهل السعادة وصارت تطعمه وتسقيه وتتحدث معه وتصلي هي وهو وتصنع له المساليق بالدجاج حتى اشتد وزال ما به من الأمراض ورجع إلى ما كان عليه من الصحة.
ثم إن بنت بهرام خرجت من عند الأسعد ووقفت على الباب وإذا بالمنادي ينادي ويقول: كل من عنده شاب مليح صفته كذا وكذا وأظهره فله جميع ما طلب من الأموال ومن كان عنده وانكره فإنه يشنق على باب داره وينهب ماله ويهدر دمه، وكان الأسعد قد اخبر بستان بنت بهرام بجميع ما جرى له فلما سمعت ذلك عرفت أنه هو المطلوب فدخلت عليه وأخبرته بالخبر فخرج وتوجه إلى دار الوزير فلما رأى الوزير قال: والله إن هذا هو أخي الأمجد وعرفه فألقى نفيه عليه وتعانقا واحتاطت بهما المماليك وغشي على الأسعد والأمجد ساعة، فلما أفاقا من غشيتهما أخذه الأمجد وطلع به إلى السلطان وأخبره بقصته فأمر السلطان بنهب بهرام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان أمر الأمجد بنهب دار بهرام فأرسل الوزير جماعة لذلك فتوجهوا إلى بيت بهرام ونهبوه وطلعوا بابنته إلى الوزير فأكرمها وحدث الأسعد أخاه بكل ما جرى له من العذاب وما عملت معه بنت بهرام من الإحسان فزاد الأمجد في إكرامها ثم حكى الأمجد للأسعد جميع ما جرى له مع الصبية وكيف سلم من الشنق وقد صار وزيراً وصار يشكو أحدهما للآخر ما وجد من فرقة أخيه، ثم إن السلطان أحضر المجوسي وأمر بضرب عنقه فقال بهرام: أيها الملك العظيم هل صممت على قتلي؟ قال: نعم، فقال بهرام: اصبرعلي أيها الملك قليلاً، ثم أطرق برأسه إلى الأرض وبعد ذلك رفع رأسه وتشهد وأسلم على يد السلطان ففرحوا بإسلامه ثم حكى الأمجد والأسعد ما جرى لهما فقال لهما: يا سيدي تجهزوا للسفر وأنا أسافر بكما، ففرحا بذلك وبإسلامه وبكيا بكاءً شديداً فقال لهما بهرام: يا سيدي لا تبكيا فمصيركما تجتمعان كما اجتمع نعمة ونعم فقالا له: وما جرى لنعمة ونعم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اشهار

Flag Counter
 
- See more at: http://dilo-awra9i.blogspot.com/