حكاية مدينة النحاس (3\3)
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك انتهى عن قتل ولده فلما كان في اليوم السابع حضرت الجارية صارخة بين يدي الملك وأضرمت ناراً قالت له إن لم تنصفني من ولدك ألقيت نفسي في هذه النار، فقد كرهت الحياة وقبل حضوري كتبت وصيتي وتصدقت بمالي وعزمت على الموت فتندم كل الندم كما ندم الملك على عذاب حارسة الحمام فقال لها الملك وكيف كان ذلك.
فقالت له الجارية: بلغني أيها الملك أن امرأة كانت عابدة زاهدة ناسكة وكانت تدخل قصر ملك من الملوك يتبركون بها وكان لها عندهم حظ عظيم فدخلت يوماً من الأيام ذلك القصر على جري عادتها وجلست بجانب زوجة الملك فناولتها عقداً قيمته ألف دينار، وقالت لها يا جارية خذي هذا العقد عندك واحرسيه حتى أخرج من الحمام فآخذه منك، وكان الحمام في القصر فأخذته الجارية وجلست في موضع في منزل الملكة حتى تدخل الحمام الذي عندها في المنزل وتخرج، ثم وضعت ذلك العقد تحت سجادة وقامت تصلي فجاء طير وأخذ العقد وجعله في شق من زوايا القصر، وقد خرجت الحارسة لحاجة تقضيها وترجع ولم تعلم بذلك، فلما خرجت زوجة الملك من الحمام طلبت العقد من تلك الحارسة فلم تجده وجعلت تفتش عليه فلم تجد له خبراً ولم تقع له على أثر فصارت الحارسة تقول والله يا بنتي ما جاءني أحد وحين أخذته وضعته تحت السجادة، ولم أعلم هل أحد من الخدم عاينه واستغفلني وأنا في الصلاة وأخذه والعلم في ذلك لله تعالى فلما سمع الملك بذلك أمر زوجته أن تعذب الحارسة بالنار والضرب الشديد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أمر زوجته أن تعذب الحارسة بالنار والضرب الشديد عذبتها بأنواع العذاب، فلم تقر بشيء ولم تتهم أحداً فبعد ذلك أمر الملك بسجنها وأن يجعلوها في القيود فحبست، ثم إن الملك جلس يوماً من الأيام في وسط القصر والماء محدق به وزوجته بجانبه فوقعت عينه على طير وهو يسحب ذلك العقد من شق من زوايا القصر، فصاح على جارية عنده فأدركت ذلك الطير وأخذت العقد منه فعلم الملك أن الحارسة مظلومة فندم على ما فعل معها وأمر بإحضارها فلما حضرت أخذ يقبل رأسها ثم صار يبكي ويستغفر ويتندم على ما فعل معها ثم أمر لها بمال جزيل فأبت أن تأخذه ثم سامحته وانصرفت من عنده وأقسمت على نفسها أن لا تدخل منزل أحد وساحت في الجبال والأودية تعبد الله تعالى إلى أن ماتت. وبلغني أيضاً من كيد الرجال والنساء حكاية أعجب من هذه الحكايات كلها فقال لها الملك هات ما عندك فقالت اعلم أيها الملك أن جارية من جواري الملك ليس لها نظير في زمانها في الحسن والجمال، والقد والاعتدال والبهاء والدلال والأخذ بعقول الرجال وكانت تقول ليس لي نظر في زماني وكان جميع أولاد الملوك يخطبونها فلم ترض أن تأخذ واحداً منهم وكان اسمها الدنماء وكانت تقول لا يتزوجني إلا من يقهرني في حومة الميدان بالضرب والطعان فإن غلبني أحد تزوجته بطيب قلبي وإن غلبته أخذت فرسه وسلاحه وثيابه وكتبت على جبهته هذا عتيق فلانة وكان أبناء الملوك يأتون إليها من كل مكان بعيد وقريب وهي تغلبهم وتعيبهم وتأخذ أسلحتهم ولسعتها بالنار فسمع بها ابن ملك من ملوك العجم يقال له بهرام فأعجب بها من مسافة بعيدة واستصحب معه مالاً وخيلاً ورجالاً وذخائر من ذخائر الملوك حتى يصل إليها.
فلما حضر عندها أرسل إلى والدها هدية سنة فأقبل عليه الملك وأكرمه غاية الإكرام ثم إنه أرسل إليه مع وزرائه أنه يريد أن يخطب ابنته فأرسل إليه والدها وقال له يا ولدي أما ابنتي الدنماء فليس لي عليها حكم لأنها أقسمت على نفسها أنها لا تتزوج إلا من يقهرها في حومة الميدان فقال له ابن الملك وأنا ما سافرت من مدينتي إلا على هذا الشرط فقال الملك في غد تلتقي معها، فلما جاء الغد أرسل والدها إليها واستأذنها فلما سمعت ذلك تأهبت للحرب ولبست آلة حربها إلى الميدان فخرج ابن الملك إلى لقائها وعزم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك خرج للقائها وعزم على تجربها فتسامعت الناس بذلك فأتت من كل مكان فحضروا في ذلك اليوم وخرجت الدنماء وقد لبست وتمنطقت وتنقبت، فبرز لها ابن الملك وهو في أحسن حالة وأتقن آلة من آلات الحرب وأكمل عدة فحمل كل واحد منهما على الآخر ثم تجاولا طويلاً واعتركا ملياً، فنظرت منه من الشجاعة والفروسية ما لم تنظره من غيره، فخافت على نفسها أن يخجلها بين الحاضرين، وعلمت أنه لا محالة غالبها فأرادت مكيدته وعملت له الحيلة فكشفت عن وجهها وإذا هو أضوأ من البدر، فلما نظر إليها ابن الملك اندهش فيه وضعفت قوته وبطلت عزيمته فاقتلعته من سرجه وصار في يدها مثل العصفور في مخلب العقاب وهو ذاهل في صورتها لا يدري ما يفعل به فأخذت جواده وسلاحه وثيابه وسمته بالنار وأطلقت سبيله.
فلما فاق من غشيته، مكث أياماً لا يأكل ولا يشرب ولا ينام من القهر وتمكن حب الجارية من قلبه فصرف عبيده إلى والده وكتب له كتاباً أنه لا يقدر أن يرجع إلى بلده حتى يظفر بحاجته أو يموت دونها فلما وصلت المكاتبة إلى والده حزن عليه وأراد أن يبعث إليه بالجيوش والعساكر، فمنعه الوزراء من ذلك وصبروه ثم إن ابن الملك استعمل في غرضه الحيلة فجعل نفسه شيخاً هرماً وقصد بستان بنت الملك لأنها كانت تدخل أكثر أيامها فيه فاجتمع ابن الملك بالخولي وقال له: إني رجل غريب من بلاد بعيدة وكنت مدة شبابي خولي وإلى الآن أحسن الفلاحة وحفظ النبات والمشموم ولا يحسنه أحد غيري.
فلما سمعه الخولي فرح به غاية الفرح، فأدخله البستان ووصى عليه جماعته فأخذ في الخدمة وتربية الأشجار والنظر في مصالح أثمارها وبينما هو كذلك يوماً من الأيام وإذا بالعبيد قد ركضوا ومعهم البغال عليهم الفراش والأواني فسأل عن ذلك، فقالوا له إن بنت الملك تريد أن تتفرج على ذلك البستان فمضى وأخذ الحلي والحلل التي كانت معه من بلاده، وجاء بها إلى البستان وقعد فيه ووضع قدامه شيئاً من تلك الذخائر وصار يرتعش ويظهر أن ذلك من الهرم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن ملك العجم لما جعل نفسه شيخاً كبيراً وقعد في البستان ووضع بين يديه الحلي والحلل وأظهر أنه يرتعش من الكبر والهرم والضعف فلما كان بعد ساعة حضر الجواري والخدم ومعهن ابنة الملك في وسطهن كأنها القمر بين النجوم، فأقبلن وجعلن يدرن البستان ويقطفن الأثمار فرأين رجلاً قاعداً تحت شجرة من الأشجار فقصدنه وهو ابن الملك ونظرنه، وإذا به شيخ كبير يرتعش بيديه ورجليه وبين يديه حلي وذخائر من ذخائرالملوك، فلما نظرنه تعجبن من أمره فسألته عن هذه الحلي ما يصنع به، فقال لهن هذه الحلي أريد أن أتزوج بها واحدة منكن فتضاحكن عليه وقلن له إذا تزوجتها ما تصنع بها. فقال كنت أقبلها قبلة واحدة وأطلقها فقالت له ابنة الملك زوجتك بهذه الجارية، فقام إليها وهو يتوكأ على عصا ويرتعش ويتعثر فقبلها ودفع لها تلك الحلي والحلل ففرحت الجارية وتضاحكن عليه ثم ذهبن إلى منازلهن.
فلما كان في اليوم الثاني دخلن البستان وجئن نحوه فوجدنه جالساً في موضعه وبين يديه حلي وحلل وأكثر من الأول فقعدن عنده وقلن له أيها الشيخ ما تصنع بهذه الحلي، فقال أتزوج به واحدة منكن مثل البارحة فقالت له ابنة الملك قد زوجتك هذه الجارية فقام إليها وقبلها وأعطاها تلك الحلي والحلل وذهبن إلى منزلهن، فلما رأت ابنة الملك الذي أعطاه للجواري من الحلي والحلل، قالت في نفسها أنا كنت أحق بذلك وما علي بذلك من بأس.
فلما أصبح الصباح، خرجت من منزلها وحدها وهي في صورة جارية من الجواري وأخفت نفسها إلى أن أتت إلى الشيخ، فلما حضرت بين يديه قالت يا شيخ أنا ابنة الملك هل تريد أن تتزوج بي؟ فقال لها حباً وكرامة وأخرج لها الحلي والحلل ما هو أعلى قدراً وأغلى ثمناً ثم دفعه وقام ليقبلها وهي آمنة مطمئنة، فلما وصل إليها قبض عليها بشدة وضرب بها الأرض وأزال بكارتها وقال لها ما تعرفيني فقالت له من أنت؟ فقال لها أنا بهرام ابن ملك العجم قد غيرت صورتي وتغربت عن أهلي ومملكتي من أجلك، فقامت من تحته وهي ساكتة لا ترد عليه جواباً ولا تبدي له خطاباً مما أصابها، وقالت في نفسها إن قتلته فما يفيد قتله، ثم تفكرت في نفسها وقالت ما يسعني في ذلك إلا الهرب معه إلى بلاده، فجعلت مالها وذخائرها وأرسلت إليه وأعلمته بذلك لأجل أن يتجهز أيضاً ويجمع ماله وتعاهدا على ليلة يسافرا فيها.
ثم ركبا الخيل وسارا تحت جنح الليل، فلما أصبح الصباح حتى قطعا بلاداً بعيدة ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى بلاد العجم قرب مدينة أبيه، فلما سمع والده تلقاه بالعساكر والجنود وفرح غاية الفرح، ثم بعد أيام قلائل أرسل إلى والد الدنماء هدية سنية وكتب له كتاباً يخبره فيه أن ابنته عنده ويطلب جهازها، فلما وصلت الهدايا إليه تلقاها وأكرم من حضر بها غاية الإكرام وفرح بذلك فرحاً شديداً ثم أولم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك أبا الدنماء فرح فرحاً شديداً وأولم الولائم وأحضر القاضي والشهود وكتب كتابها على ابن الملك، وخلع على الرسل الذين حضروا بالكتاب من عند ابن ملك العجم، وأرسل إلى ابنته جهازها ثم أقام معها ابن ملك العجم حتى فرق بينهما الموت، فانظر أيها الملك كيد الرجال للنساء وأنا لن أرجع عن حقي إلى أن أموت، فأمر الملك بقتل ولده، فدخل الوزير السابع فلما حضر بين يديه قبل الأرض بين يديه وقال أيها الملك أمهلني حتى أقول لك هذه النصيحة فإن من صبر وتأنى أدرك الأمل ونال ما تمنى ومن استعجل يحصل له الندم، وقد رأيت ما تعهدته هذه الجارية من تحميل الملك ركوب الأهوال والمملوك المغمور من فضلك وإنعامك ناصح لك، وأنا أيها الملك أعرف من كيد النساء ما لا يعرفه أحد غيري وقد بلغني من ذلك حديث العجوز وولد التاجر فقال له الملك وكيف كان ذلك يا وزير؟ فقال: بلغني أيها الملك أن تاجراً كان كثير المال وكان له ولد يعز عليه فقال الولد لوالده يوماً من الأيام يا والدي أتمنى عليك أمنية تفرج عني بها فقال له أبوه ما هي يا ولدي حتى أعطيكها ولو كانت نور عيني لأبلغك به مقصودك فقال له الولد أتمنى عليك أن تعطيني شيئاً من المال أسافر به مع التجار إلى بلاد بغداد لأتفرج عليها، وأنظر قصور الخلفاء لأن أولاد التجار وصفوا لي ذلك وقد اشتقت أن أنظر إليها فقال له والده يا بني من له صبر على غيبتك، فقال له الولد أنا قلت لك هذه الكلمة ولا بد من المسير إليها برضا أو بغير رضا فإنه وقع في نفسي وجد لا يزول إلا بالوصول إليها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن التاجر قال لأبيه لابد من السفر والوصول إلى بغداد، فلما تحقق منه ذلك جهز له متجراً بثلاثين ألف دينار وسفره مع التجار الذين يثق بهم ووصى عليه التجار ثم إن والده ودعه ورجع إلى منزله ومازال الولد مسافراً مع رفقائه التجار إلى أن وصلوا إلى مدينة بغداد دار السلام فلما بلغوها دخل الولد سوقها واكترى له داراً حسنة مليحة أذهلت عقله وأدهشت ناظره فيها الطيور تغرد والمجالس يقابل بعضها بعضاً وأرضها مرخمة بالرخام الملون وسقوفها مذهبة باللازورد المعدني فسأل البواب عن مقدار أجرتها كم في الشهر فقال له عشرة دنانير فقال له الولد هل أنت تقول حقاً أو تهزأ بي فقال له البواب والله لا أقول إلا حقاً فإن كل من سكن هذه الدار لا يسكنها إلا جمعة أو جمعتين.
فقال له الولد وما السبب في ذلك فقال يا ولدي كل من سكنها لا يخرج منها إلا مريضاً أو ميتاً وقد اشتهرت هذه الدار بهذه الأشياء عند جميع الناس فلم يتقدم أحد على سكنها وقد قلت أجرتها لهذا القدر فلما سمع الولد ذلك تعجب منه غاية العجب، وقال لابد أن يكون لهذه الدار سبب من الأسباب حتى يحصل فيها ذلك المرض أو الموت، ثم تفكر الولد في نفسه واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وأزال ذلك الوهم من خاطره وسكنها وباع واشترى ومضى عليه مدة أيام في الدار، ولم يصبه شيء مما قال له ذلك البواب، فبينما هو جالس يوماً من الأيام على باب الدار إذ مرت عليه عجوز شمطاء كأنها الحية الرقطاء، وهي تكثر من التسبيح والتقديس وتزيل الحجارة والأذى من الطريق، فرأت الولد جالساً على الباب فنظرت إليه وتعجبت من أمره فقال لها الولد يا امرأة هل تعرفينني أو تشبهين علي. فلما سمعت كلامه هرولت إليه وسلمت عليه وقالت له كم لك ساكناً في هذه الدار؟ فقال لها يا أمي مدة شهرين فقالت: من هذا تعجبت وأنا يا ولدي لا أعرفك ولا تعرفني ولا شبهت عليك بل إني تعجبت من أنه لا أحد غيرك يسكنها إلا ويخرج منها ميتاً أو مريضاً، وما أشك أنك يا ولدي مخاطر بشبابك هلا طلعت القصر ونظرت من المنظرة التي فيه ثم إن العجوز مضت إلى حال سبيلها فلما فارقته العجوز صار الولد متفكراً في كلامها وقال في نفسه أنا ما طلعت أعلى القصر ولا أعلم أن به منظرة، ثم دخل من وقته وساعته وجعل يطوف في أركان البيت حتى رأى في ركن منها باباً لطيفاً معششاً عليه العنكبوت بين الأشجار، فلما رآه الولد قال في نفسه لعل العنكبوت ما عشش على هذا الباب إلا لأن المنية داخله، فتمسك بقول الله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ثم فتح ذلك الباب وطلع في سلم لطيف حتى وصل إلى أعلاه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام طلع السلم حتى وصل إلى أعلاه فرأى منظرة فجلس فيها يستريح ويتفرج، فنظر إلى موضع لطيف نظيف بأعلاه مقعد منيف يشرف على جميع بغداد، وفي ذلك المقعد جارية كأنها حورية فأخذت بمجامع قلبه وذهبت بعقله ولبه وأورثته ضر أيوب وحزن يعقوب فلما نظر الولد وتأملها بالتحقيق قال في نفسه لعل الناس يذكرون أنه لا يسكن هذه الدار واحداً غلا مات أو مرض بسبب هذه الجارية فيا ليت شعري كيف يكون خلاصي فقد ذهب عقلي ثم نزل من أعلى القصر متفكراً في أمره فجلس في الدار فلم يستقر قراره ثم خرج وجلس على الباب متحيراً في أمره وإذا بالعجوز ماشية وهي تذكر وتسبح في الطريق.
فلما رآها الولد قام واقفاً على قدميه وبدأها بالسلام والتحية، وقال لها يا أمي كنت بخير وعافية حتى أشرت علي بفتح الباب، فرأيت المنظرة وفتحتها ونظرت أعلاها فرأيت ما أدهشني، والآن أظن أني هالك وأنا أعلم أنه ليس لي طبيب غيرك، فلما سمعته ضحكت وقالت له لابأس عليك إن شاء الله تعالى، فلما كلمته بذلك الكلام قام الولد ودخل الدار وخرج لها وفي كمه مائة دينار وقال لها خذيها يا أمي وعامليني معاملة السادات للعبيد وبالعجل أدركيني وإذا مت فأنت المطالبة بدمي يوم القيامة.
فقالت له العجوز حباً وكرامة، وإنما أريد منك يا ولدي أن تساعدني بمعاملة لطيفة فيها تبلغ مرادك فقال لها وما تريدين يا أمي فقالت وأريد منك أن تعينني وتروح إلى سوق الحرير وتسأل عن دكان أبي الفتح بن قيدام فإذا دلوك عليه، فاقعد على دكانه وسلم عليه وقل له أعطيني القناع الذي عندك مرسوماً بالذهب فإنه ما عنده في دكانه أحسن منه، فاشتري منه يا وليد بأغلى ثمن واجعله عندك حتى أحضر إليك في غد إن شاء الله تعالى، ثم إن العجوز انصرفت وبات الولد تلك الليلة يتقلب على جمر الغضى، فلما أصبح الصباح أخذ الولد في جيبه ألف دينار وذهب بها إلى سوق الحرير وسأل عن دكان أبي الفتح فأخبره به رجل من التجار، فلما وصل إليه رأى بين يديه غلمانه وخدماً وحشماً ورأى عليه وقاراً وهو في سعة مال ومن تمام نعمته تلك الجارية التي ما مثلها عند أبناء الملوك ثم إن الولد لما نظره سلم عليه فرد عليه السلام ثم أمره بالجلوس عنده فقال له الولد يا أيها التاجر أريد منك القناع الفلاني لأنظره فأمر التاجر العبد أن يأتيه بربطة من الحرير من صدر الدكان فأتاه بها ففتحها وأخرج منها عدة قناعات فتحير الولد من حسنها ورأى ذلك القناع بعينه فاشتراه بخمسين ديناراً وانصرف به مسروراً إلى داره.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الولد لما اشترى القناع من التاجر أخذه وانصرف به إلى داره وإذا هو بالعجوز قد أقبلت فلما رآها قام لها على قدميه وأعطاها ذلك القناع، ثم قالت له احضر لي جمرة نار فأحضر الولد النار فقربت طرف القناع من الجمرة فأحرقت طرفه ثم طوته كما كان وأخذته وانصرفت به إلى بيت أبي الفتح فلما وصلت طرقت الباب فلما سمعت الجارية صوتها قامت وفتحت الباب، وكانت للعجوز صحبة بأم الجارية وهي تعرفها وذلك بسبب أنها رفيقة أمها فقالت لها الجارية وما حاجتك يا أمي إن والدتي خرجت من عندي إلى منزلها، فقالت لها العجوز يا بنتي أنا عارفة أن أمك ليست عندك وأنا كنت عندها في الدار، وما جئت إليك إلا خوف فوات وقت الصلاة فأريد الوضوء عندك فإني أعلم منك أنك نظيفة ومنزلك طاهر فأذنت لها الجارية بالدخول عندها.
فلما دخلت سلمت عليها ودعت لها ثم أخذت الإبريق ودخلت بيت الخلاء ثم توضأت وصلت في موضع، وقامت بعد ذلك للجارية وقالت لها يا بنتي أظن أن هذا الموضع الذي صليت فيه مشى فيه الخدم وأنه نجس فانظر لي موضعاً آخر لأصلي فيه فإني أبطلت الصلاة التي صليتها، فأخذتها الجارية من يدها وقالت لها تعالي يا أمي صلي على فراشي الذي يجلس عليه زوجي، فلما أوقفتها على الفراش قامت تصلي وتدعو وتركع، ثم غافلت الجارية وجعلت ذلك القناع تحت المخدة من غير أن تنظرها، ولما فرغت من الصلاة دعت لها وقامت فخرجت من عندها، فلما كان آخر النهار دخل التاجر زوجها فجلس على الفراش فأتته بطعام فأكل منه كفايته وغسل يديه ثم اتكأ على الوسادة وإذا بطرف القناع خارج من تحت المخدة فأخرجه من تحتها، فلما نظره عرفه فظن الجارية بالفحشاء فناداها وقال لها من أين لك هذا القناع، فحلفت له أيماناً وقالت له أنه لم يأتني أحد غيرك، فسكت التاجر خوفاً من الفضيحة وقال في نفسه متى فتحت هذا الباب افتضحت في بغداد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر قال في نفسه متى فتحت هذا الباب افتضحت في بغداد لأن ذلك التاجر كان جليس الخليفة، فلم يسعه إلا السكوت ولم يخاطب بكلمة واحدة وكان اسم الجارية محظية فناداها وقال لها قد بلغني أن أمك راقدة ضعيفة من وجع قلبها وجميع النساء عندها يتباكين عليها وقد أمرتك أن تخرجي إليها فمضت الجارية إلى أمها فلما دخلت الدار وجدت أمها طيبة فجلست ساعة وغذا بالحمالين قد أقبلوا عليها بنقل حوائجها من دار التاجر فنقلوا جميع ما في الدار من الأمتعة فلما رأت ذلك أمها قالت يا بنتي أي شيء جرى لك، فأنكرت منها ذلك ثم بكت أمها وحزنت على فراق بنتها من ذلك الرجل.
ثم إن العجوز بعد مدة من الأيام جاءت إلى الجارية وهي في المنزل فسلمت عليها باشتياق وقالت لها ما لك يا بنتي يا حبيبتي قد شوشت فكري ودخلت على أم الجارية فقالت لها يا أختي ما الخبر وما حكاية البنت مع زوجها فإنه قد بلغني أنه طلقها فأي شيء لها من الذنب يوجب هذا كله، فقالت له أم الجارية لعل زوجها يرجع إليها ببركتك فادعي لها يا أختي فإنك صوامة قوامة طول ليلك، ثم إن البنت لما اجتمعت هي وأمها والعجوز في البيت وتحدثن مع بعضهن قالت لها العجوز يا بنتي لا تحملي هماً إن شاء الله تعالى أجمع بينك وبين زوجك في هذه اليام ثم خرجت إلى الولد وقالت له هيء لنا مجلساً مليحاً فإني آتيك بها في هذه الليلة فنهض الولد وأحضر ما يحتاجان إليه من الأكل والشرب وقعد في انتظارهما فجاءت العجوز إلى أم الجارية وقالت لها يا أختي عندنا فرح فأرسلي البنت معي لتتفرج ويزول ما بها من الهم والغم ثم ارجع بها إليك مثل ما أخذتها من عندك. فقامت أم الجارية وألبستها أفخر ملبوسها وزينتها بأحسن الزينة من الحلي والحلل وخرجت مع العجوز وذهبت أمها معها إلى الباب، وصارت توصي العجوز وتقول لها إحذري أن ينظرها أحد من خلق الله تعالى، فإنك تعلمين منزلة زوجها عند الخليفة ولا تتعوقي وارجعي بها في أسرع وقت، فأخذتها العجوز إلى أن وصلت بها إلى منزل الولد والجارية تظن أنه منزل العرس، فلما دخلت الدار ووصلت إلى قاعة الجلوس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما دخلت الدار ووصلت إلى قاعة الجلوس وثب الولد إليها وعانقها وقبل يديها ورجليها فاندهشت الجارية من حسن الولد وتخيلت أن ذلك المكان وجميع ما فيه من مشموم ومأكول ومشروب منام فلما نظرت العجوز اندهاشها قالت لها اسم الله عليك يا بنتي فلا تخافي وأنا قاعدة لا أفارقك ساعة واحدة، وأنت تصلحين له وهو يصلح لك فقعدت الجارية وهي في شدة الخجل، فلم يزل الولد يلاعبها ويضاحكها ويؤنسها بالأشعار والحكايات حتى انشرح صدرها وانبسطت فأكلت وشربت ولما طاب لها الشرب أخذت العود وغنت ولحسن الولد مالت وحنت.
فلما رأى الولد منها ذلك سكر من غير مدام وهانت عليه روحه وخرجت العجوز من عنده ثم أتتهما في الصباح وصبحت عليهما ثم قالت للجارية كيف كانت ليلتك يا سيدتي فقالت لها كانت طيبة بطول أياديك وحسن تعريضك ثم قالت لها قومي نروح إلى أمك، فلما سمع الولد كلام العجوز خرج لها مائة دينار وقال لها خليها عندي هذه الليلة فخرجت العجوز من عندهما ثم ذهبت إلى والدة الجارية وقالت بنتك تسلم عليك وأم العروسة قد حلفت عليها أنها تبيت عندها هذه الليلة فقالت لها أمها يا أختي سلمي عليهما وإذا كانت الجارية منشرحة لذلك فلابأس ببياتها حتى تنبسط وتجيء على مهلها ما أخاف عليها إلا من القهر من جهة زوجها، ومازالت العجوز تعمل لأم الجارية حيلة بعد حيلة إلى أن مكثت سبعة أيام وكل يوم تأخذ من الولد مائة دينار.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز مكثت أسبوع تأخذ في كل يوم مائة دينار فلما مضت هذه الأيام قالت أم الجارية للعجوز هات لي ابنتي في هذه الساعة فإن قلبي مشغول عليها وقد طالت مدة غيبتها وتوهمت من ذلك فخرجت العجوز من عندها غضبانة من كلامها ثم جاءت إلى الجارية ووضعت يدها في يدها ثم خرجتا من عند الولد وهو نائم على فراشه من سكر المدام إلى أن وصلتا إلى أم الجارية فالتفتت أمها إليها ببسط وانشراح وفرحت بها غاية الفرح وقالت لها يا بنتي إن قلبي مشغول بك ووقعت في حق أختي بكلام أوجعتها به فقالت لها قومي وقبلي يديها ورجليها فإنها كانت لي كالخادم في قضاء حاجتي وإن تفعلي ما أمرتك به فما أنا بنتك ولا أنت أمي فقامت من وقتها وصالحتها ثم إن الولد قام من سكره فلم يجد الجارية لأنه استبشر بما ناله لما بلغ مقصوده ثم إن العجوز ذهبت إلى الولد وسلمت عليه وقالت له ماذا رأيت فقال لها نعم ما فعلتيه من الرأي والتدبير ثم قالت له تعال نصلح ما أفسدناه ونرد هذه الجارية إلى زوجها فإننا كنا سبب الفراق بينهما فقال لها وكيف أفعل قالت تذهب إلى دكان التاجر وتقعد عنده وتسلم وأنا أفوت على الدكان فلما تنظرني قم إلي من الدكان بسرعة واقبض علي، واجذبني من ثيابي واشتمني وخوفني، وطالبني بالقناع وقل للتاجر أنت يا مولاي ما تعرف القناع الذي اشتريته منك بخمسين ديناراً فقد حصل يا سيدي أن جارتي لبسته فاحترق من طرفه فأعطته جاريتي لهذه العجوز تعطيه لأحد يرتيه لها فأخذته ومضت ولم أرها من ذلك اليوم.
فقال لها الولد حباً وكرامة ثم إن الولد تمشى من وقته وساعته إلى دكان التاجر وجلس عنده ساعة وإذا بالعجوز جائزة على الدكان وبيدها مسبحة تسبح بها فلما رآها قام على رجليه وجذبها من ثيابها وصار يشتمها ويسبها وهي تكلمه بلطافة وتقول له يا ولدي أنت معذور فاجتمع أهل السوق عليهما وقالوا ما اخلبر فقال يا قوم إنني اشتريت من هذا التاجر قناعاً بخمسين ديناراً ولبسته الجارية ساعة واحدة فقعدت تبخره فطارت شرارة فأحرقت طرفه فدفعناه إلى هذه العجوز على أنها تعطيه لمن يرتيه وترده لنا فمن ذلك الوقت ما رأيناها أبداً. فقالت العجوز صدق هذا الولد نعم إني أخذته منه ودخلت به بيتاً من البيوت التي أدخلها على عادتي فنسيته في موضع من تلك الأماكن ولم أدر في أي موضع هو، وأنا امرأة فقيرة وخفت من صاحبه فلم أواجهه كل كل هذا والتاجر زوج المرأة يسمع كلامهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الولد لما قبض على العجوز وكلمها من قبل القناع كما أعلمته كان التاجر زوج المرأة يسمع الكلام من أوله إلى آخره فلما اطلع التاجر على الخبر الذي دبرته هذه العجوز المكارة مع الولد قام التاجر على قدميه ثم قال الله أكبر أستغفر الله العظيم من ذنوبي وما توهمه خاطري وحمد الله الذي كشف له عن الحقيقة، ثم أقبل التاجر وقال لها هل تدخلين عندنا، فقالت له يا ولدي أنا أدخل عندك وعند غيرك لأجل الحسنة ومن ذلك اليوم لم يعطني أحد خبر ذلك القناع فقال التاجر هل سألت أحداً عنه في بيتنا فقالت له يا سيدي إني رحت البيت وسألت فقالوا لي أن الزوجة قد طلقها التاجر، فرجعت ولم أسأل أحداً بعد ذلك إلى هذا اليوم فالتفت التاجر إلى الولد وقال أطلق سبيل هذه العجوز فإن القناع عندي وأخرجه من الدكان وأعطاه للرتى قدام الحاضرين، ثم بعد ذلك ذهب إلى زوجته وأعطاها شيئاً من المال وأرجعها إلى نفسه بعد أن بالغ في الاعتذار إليها واستغفر الله وهو لا يدري بما فعلت العجوز فهذا من جملة كيد النساء أيها الملك.
قال الوزير وقد بلغني أيضاً أيها الملك أن بعض أولاد الملوك خرج منفرداً بنفسه ليتفرج فمر بروضة خضراء ذات أشجار وأثمار وأنهار تجري خلال تلك الروضة فاستحسن الولد ذلك الموضع وجلس فيه وأخرج من النقل الذي كان معه وجعل يأكل وهو كذلك إذ رأى دخاناً عظيماً طالعاً إلى السماء من ذلك المكان فخاف ابن الملك وقام فصعد على شجرة من الأشجار واختفى فيها، فلما طلع فوقها رأى عفريتاً طلع من وسط ذلك النهر وعلى رأسه صندوق من الرخام وعليه قفل فوضعه في تلك الروضة وفتح ذلك الصندوق فخرجت منه جارية كأنها الشمس الضاحية في السماء الصافية وهي من الإنس فأجلسها بين يديه يتفرج عليها ثم حط رأسه على حجرها فنام فأخذت رأسه وحطته على الصندوق وقامت تتمشى فلاح منها نظرة إلى تلك الشجرة فرأت ابن الملك فأومأت إليه بالنزول فامتنع من النزول فأقسمت عليه وقالت له إن لم تنزل وتفض بي الذي أقوله لك، نبهت العفريت من النوم وأعلمته بك فيهلكك من ساعتك فخاف الولد منها فنزل، فلما نزل قبلت يديه ورجليه وراودته عن قضاء حاجتها فأجابها إلى سؤالها.
فلما فرغ من قضاء حاجتها قالت له أعطني هذا الخاتم الذي بيدك فأعطاها الخاتم، فصرفته على منديل حيري كان معها وفيه عدة من الخواتم تفوق عن ثمانين وجعلت ذلك الخاتم من جملتها، فقال: وما تصنعين بهذه الخواتم التي معك فقالت له إن هذا العفريت اختطفني من قصر أبي وجعلني في هذا الصندوق وقفل علي بقفل معه ووضعني فيه على رأسه حيثما توجه ولا يكاد يصبر عني ساعة واحدة من شدة غيرته علي ويمنعني مما أشتهيه فلما رأيت ذلك منه حلفت أني لا أمنع أحداً من وصالي وهذه الخواتم التي معي على قدر عدة الرجال الذين واصلوني لأن كل من واصلني آخذ خاتمه فأجعله في هذا المنديل، ثم قالت له توجه إلى حال سبيلك لا تنظر أحد غيرك فإنه سيقوم في هذه الساعة فما صدق الولد بذلك إلا وانصرف إلى حال سبيله حتى وصل إلى منزل أبيه والملك لم يعلم بكيد الجارية لابنه ولم تخف من ذلك ولم تحسب له حساباً.
فلما سمع الملك أن خاتم ولده ضاع أمر أن يقتل ذلك الولد، ثم قام من موضعه فدخل قصره وإذا بالوزراء راجعوه عن قتل ولده، فلما كان ذات ليلة أرسل الملك إلى الوزراء يدعوهم فحضروا جميعاً، فقام إليهم الملك وتلقاهم وشكرهم على ما كان منهم من مراجعته في قتل ولده، وكذلك شكرهم الولد وقال لهم نعم ما دبرتم لوالدي في بقاء نفسي وسوف أجازيكم بخير إن شاء الله تعالى، ثم إنالولد بعد ذلك أخبرهم بسبب ضياع خاتمه فدعوا له بطول البقاء وعلو الارتقاء ثم انصرفوا من المجلس فانظر أيها الملك كيد النساء وما تفعله الرجال فرجع الملك عن قتل ولده، فلما أصبح الصباح جلسن وفي اليوم الثامن دخل عليه ولده ويده في يد مؤدبه السندباد وقبل الأرض بين يديه ثم تكلم بأفصح لسان ومدح والده ووزراءه وأرباب دولته وشكرهم وأثنى عليهم وكان حاضراً بالمجلس العلماء والأمراء والجند وأشراف الناس فتعجب الحاضرون من فصاحة ابن الملك وبلاغته وبراعته في نطقه. فلما سمع والده ذلك فرح به فرحاً شديداً زائداً ثم ناداه وقبله بين عينيه ونادى مؤدبه السندباد وسأله عن سبب صمت ولده مدة سبعة أيام، فقال له المؤدب: يا مولانا الإصلاح في أنه لا يتكلم فإني خشيت عليه من القتل في تلك المدة وكنت يا سيدي أعرف هذا الأمر يوم ولادته فإني لما رأيت طالعه دلني على جميع ذلك وقد زال عنه السوء بسعادة الملك، ففرح الملك وقال لوزرائه: لو كنت قتلت ولدي هل يكون الذنب علي أو على الجارية أو على المؤدب السندباد؟ فسكت الحاضرون عن رد الجواب فقال مؤدب الولد السندباد لولد الملك: رد الجواب يا ولدي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد لما قال لابن الملك رد الجواب يا ولدي، قال ابن الملك: إني سمت أن رجلاً من التجار حل به ضيف في منزله فأرسل جاريته لتشتري له من السوق لبناً في جرة، فأخذت اللبن في جرتها وأرادت الرجوع إلى منزل سيدها، فبينما هي في الطريق غذ مرت عليها حدأة طائرة وفي مخلبها حية تعصرها به فقطرت نقطة من الحية في الجرة، وليس عند الجارية خبر بذلك، فلما وصلت إلى المنزل أخذ السيد منها اللبن وشرب منه هو وضيوفه فما استقر اللبن في جوفهم حتى ماتوا جميعاً، فانظر أيها الملك لمن كان الذنب في هذه القضية، فقال أحد الحاضرين الذنب للجماعة الذين شربوا، وقال آخر: الذنب للجارية التي تركت الجرة مكشوفة من غير غطاء، فقال السندباد مؤدب الغلام: ما تقول أنت في ذلك يا ولدي، فقال ابن الملك: أقول إن القوم أخطأوا ليس الذنب ذنب للجارية ولا للجماعة، وإنما آجال القوم فرغت مع أرزاقهم وقدرت منيتهم بسبب ذلك الأمر.
فلما سمع ذلك الحاضرون تعجبوا منه غاية العجب ورفعوا أصواتهم بالدعاء لابن الملك وقالوا له: مولانا قد تكلمت بجواب ليس له نظير، وأنت عالم أهل زمانك الآن. فلما سمع ابن الملك قال لهم: لست بعلام وإن الشيخ الأعمى وابن الثلاث سنين وابن الخمس سنين أعلم مني، فقال له الجماعة الحاضرون: حدثنا بحديث هؤلاء الذين هم أعلم منك يا غلام، فقال لهم ابن الملك: بلغني أنه كان تاجر من التجار كثير الأموال والأسفار إلى جميع البلدان، فأراد المسير إلى بعض البلدان فسأل من جاء منها وقال لهم: أي بضاعة فيها كثيرة الكسب؟ فقالوا له حطب الصندل فإنه يباع غالياً، فاشترى التاجر بجميع ما عنده من المال حطب صندل وسافر إلى تلك المدينة.
فلما وصل إليها كان قدومه إليها آخر النهار، وإذا بعجوز تسوق غنماً لها فلما رأت التاجر قالت له من أنت أيها الرجل؟ فقال لها: أنا رجل تاجر غريب. فقالت له: إحذر من أهل ذلك البلد، فإنهم قوم مكارون لصوص يخدعون الغريب ليظفروا به ويأكلوا ما كان منهم وبعد نصحتك ثم فارقته، فلما أصبح الصباح تلقاه رجل من أهل المدينة فسلم عليه وقال له يا سيدي من أين قدمت فقال له قدمت من البلد الفلانية، قال له ما حملت معك من التجارة قال له خشب صندل فإني سمعت أن له عندكم، فقال له الرجل لقد أخطأ من أشار عليك بذلك فإننا لا نوقد تحت القدر إلا بأي خشب فقيمته عندنا هو والحطب سواء.
فلما سمع التاجر كلام الرجل تأسف وندم وصار بين مصدق ومكذب ثم نزل ذلك التاجر في بعض خانات المدينة وصار يوقد الصندل تحت القدر، فلما رآه ذلك الرجل قال أتبيع هذا الصندل كل صاع بما تريده نفسك، فقال له بعتك فحول الرجل جميع ما عنده من الصندل في منزله وقصد البائع أن يأخذ ذهباً بقدر ما يأخذ المشتري، فلما أصبح الصباح تمشى التاجر في المدينة فلقيه رجل أزرق العينين من أهل تلك المدينة هو أعور فتلق بالتاجر وقال له أنت الذي أتلف عيني فلا أطلقك أبداً فأنكر التاجر ذلك وقال له إن هذا الأمر لا يتم فاجتمع الناس عليهما وسألوا الأعور المهلة إلى غد ويعطيه ثمن عينه فأقام الرجل التاجر له ضامناً حتى أطلقوه ثم مضى التاجر وقد انقطع نعله من مجاذبة الرجل الأعور، فوقف على دكان الاسكاف ودفعه له وقال له أصلحه لي ولك عندي ما يرضيك، ثم انصرف عنه وإذا بقوم قاعدين يلعبون فجلس عندهم من الهم والغم فسألوه اللعب معهم فأوقعوا عليه الغلب وغلبوه وخيروه أما إن يشرب البحر وإما أن يخرج من ماله جميعاً فقام التاجر وقال أمهلوني إلى غد. ثم مضى التاجر وهو مهموم على ما فعل ولا يدري كيف يكون حاله فقعد في موضع متفكراً مغموماً مهموماً، وإذا بالعجوز جائزة عليه فنظرت نحو التاجر فقالت له لعل أهل تلك المدينة ظفروا بك فإني أراك مهموماً من الذي أصابك فحكى لها جميع ما جرى من أوله إلى آخره، فقالت له من الذي عمل عليك في الصندل فإن الصندل عندنا قيمته كل رطل بعشرة دنانير ولكن أنا أدبر لك رأياً أرجو به أن يكون ذلك فيه خلاص نفسك، وهو أن تسير نحو الباب الفلاني فإن في ذلك الموضع شيخاً أعمى، مقعد أو هو عالم عارف كبير خبير وكل الناس تحضر عنده يسألونه عما يريدونه فيشير إليهم مما يكون لهم فيه الصلاح لأنه عارف بالمكر والسحر والنصب، وهو شاطر فتجتمع الشطار عنده بالليل، فاذهب عنده وأخف نفسك من غرمائك بحيث تستمع كلامهم ولا يرونك فإنه يخبرهم بالغالبة والمغلوبة لعلك تسمع منه حجة يخلصك من غرمائك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت للتاجر اذهب الليلة إلى العالم الذي يجتمع عليه أهل البلد، اخف نفسك، لعلك تسمع منه حجة تخلصك من غرمائك فانصرف التاجر من عندها إلى الموضع الذي أخبرته به وأخفى نفسه ثم نظر إلى الشيخ وجلس قريباً منه، فما كان إلا ساعة وقد حضر جماعته الذين يتحاكمون عنده، فلما صاروا بين يدي الشيخ سلموا عليه وسلم بعضهم على بعض وقعدوا حوله فلما رآهم التاجر ووجد غرماءه الأربعة من جملة الذين حضروا فقدم لهم الشيخ شيئاً من الأكل فأكلوا، ثم أقبل كل واحد منهم بخبره بما جرى له في يومه فتقدم صاحب الصندل وأخبر الشيخ بما جرى له في يومه من أنه اشترى صندلاً من رجل بغير قيمته واستقر البيع بينهما على ملء صاع مما يحب فقال له الشيخ قد غلبك خصمك فقال له كيف يغلبني، قال الشيخ إذا قال لك أنا آخذ ملئها ذهباً أو فضة فهل أنت تعطيه قال نعم أعطيه وأكون أنا الرابح، فقال له الشيخ فإذا قال لك أنا آخذ ملء صاع براغيث النصف ذكور والنصف إناث فماذا تصنع فعلم أنه مغلوب.
ثم تقدم الأعور وقال يا شيخ: إني رأيت اليوم رجلاً أزرق العينين وهو غريب البلاد فتقاربت إليه وتعلقت به وقلت له أنت قد أتلفت عيني وما تركته حتى ضمنه لي جماعة أنه يعود إلي ويرضيني في عيني، فقال له الشيخ لو أراد غلبك لغلبك قال وكيف يغلبني قال يقول لك اقلع عينك وأنا أقلع عيني ونزل كلاً منهما فإن تساوت عيني بعينك فأنت صادق فيما ادعيته، ثم يغرم دية عينك وتكون أنت أعمى ويكون هو بصيراً بعينه الثانية، فعلم أنه يغلبه بهذه الحجة ثم تقدم الإسكاف وقال له يا شيخ إني رأيت رجلاً أعطاني نعله وقال لي أصلحه فقلت له ألا تعطيني الأجرة فقال لي أصلحه ولك عندي ما يرضيك وأنا لا يرضيني إلا جميع ماله فقال له الشيخ إذا أراد أن يأخذ نعله منك ولا يعطيك شيئاً أخذه فقال له وكيف ذلك قال يقول لك إن السلطان هزمت أعداؤه وضعفت أضداده وكثرة أولاده وأنصاره أرضيت أم لا فإن قلت رضيت أخذ نعله منك وانصرف، وإن قلت لا أخذ نعله وضرب به وجهك وقفاك فعلم أنه مغلوب، ثم تقدم الرجل الذي لعب معه بالمراهنة وقال يا شيخ إني لقيت رجلاً فراهنته وغلبته فقلت له إن شربت هذا البحر فأنا أخرج عن جميع مالي لك وإن تشربه فاخرج عن جميع مالك لي فقال له الشيخ لو أراد غلبك لغلبك، فقال له وكيف ذلك قال يقول لك أمسك لي فم البحر بيدك وناوله لي وأنا أشربه فلا تستطيع ويغلبك بهذه الحجة فلما سمع التاجر ذلك عرف ما يحتج به على غرمائه ثم قاموا من عند الشيخ وانصرف التاجر إلى محله. فلما أصبح الصباح أتاه الذي راهنه على شرب البحر فقال له التاجر ناولني فم البحر وأنا أشربه فلم يقدر فغلبه التاجر وفدى الراهن نفسه بمائة دينار وانصرف ثم جاءه الإسكاف وطلب منه ما يرضيه فقال له التاجر إن السلطان غلب أعداءه وأهلك أضداده وكثرت أولاده وأنصاره أرضيت أم لا قال نعم رضيت فأخذ مركوبه بلا أجرة وانصرف، ثم جاءه الأعور وطلب منه دية عينه، فقال له التاجر اقلع عينك وأنا أقلع عيني ونزنهما فإن استوتا فأنت صادق فخذ دية عينك فقال له الأعور أمهلني ثم صالح التاجر على مائة دينار وانصرف ثم جاءه الذي اشترى الصندل فقال له خذ ثمن صندلاً بصاع من غيره فإن أردت خذه ملأه ذهباً أو فضة، فقال له التاجر أنا لا آخذه لأملاه براغيث النصف ذكوراً والنصف إناث فقال له أنا لا أقدر على شيء من ذلك فغلبه التاجر وفدى المشتري نفسه بمائة دينار بعد أن رجع له صندله، وباع التاجر الصندل كيف أراد وقبض ثمنه من تلك المدينة إلى بلده.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل التاجر لما باع صندله وقبض ثمنه سافر من تلك المدينة إلى مدينته ثم قال ابن الملك وأما ابن الثلاث سنين فإنه كان رجل فاسق مغرم بالنساء قد سمع بامرأة ذات جمال وهي ساكنة في مدينة غير مدينته فسافر إلى المدينة التي هي فيها وأخذ معه هدية وكتب لها رقعة تصف لها شدة ما يقاسيه من الشوق والغرام، وقد حمله حبه إياها على المهاجرة إليها والقدوم عليها فأذنت له بالذهاب إليها، فلما وصل إلى منزلها ودخل عليها قامت له على قدميها، وتلقته بالإكرام والاحترام وقبلت يديه وضيفته ضيافة لا مزيد عليها من المأكول والمشروب ولها ولد صغير له من العمر ثلاث سنين فتركته واشتغلت بتحضير الطبخ، فقال لها الرجل قومي بنا ننام فقالت له إن ولدي قاعد، فقال لها هذا ولد صغير لا يفهم ولا يعرف أن يتكلم فقالت له لو علمت معرفته ما تكلمت.
فلما علم الولد أن الأرز استوى بكى بكاء شديداً فقالت له أمه ما يبكيك يا ولدي فقال لها اغرفي لي من الأرز واجعلي لي فيه سمناً، فغرفت وجعلت عليه السمن فأكل الولد ثم بكى ثانياً فقالت له أمه ما يبكيك يا ولدي فقال لها يا أماه اجعلي لي عليه سكراً فقال له الرجل وقد اغتاظ منه ما ت إلا ولد مشؤوم فقال له الولد: والله يا مشؤوم ما أنت إلا حيث تعبت وسافرت من بلد إلى بلد في طلب الزنا، وأما أنا فبكائي من أجل شيء كان في عيني فأخرجته بالدموع وأكلت بعد ذلك أرزاً وسمناً وسكراً وقد اكتفيت فمن المشؤوم منا.
فلما سمع الرجل ذلك خجل من كلام ذلك الولد الصغير ثم أدركته الموعظة فتاب من وقته وساعته ولم يتعرض لها بشيء وانصرف إلى بلده ولم يزل تائباً إلى أن مات ثم قال ابن الملك وأما ابن الخمس سنين فإنه بلغني أيها الملك أن أربعة من التجار اشتركوا في ألف دينار وقد خلطوها بينهم وجعلوها في كيس واحد فذهبوا بها ليشتروا بضاعة، فلقوا في طريقهم بستاناً حسناً فدخلوه وتركوا الكيس عند حارسة البستان وقالوا لها: لا تدفعي هذا الكيس إلا إذا حضرنا جميعاً، فلما دخلوا تفرجوا في ناحية البستان وأكلوا وشربوا وانشرحوا فقال واحد منهم: أنا معي طيب تعالوا نغسل رؤوسنا من هذا الماء الجاري ونتطيب قال آخر يحتاج إلى مشط قال آخر نسأل الحارسة لعل أن يكون عندها مشط فقام واحد منهم إلى الحارسة وقال لها ادفعي لي الكيس فقالتله حتى تحضروا كلكم أو يأمرني رفقاؤك أن أعطيك إياه وكان رفقاؤه من مكان بحيث تراهم الحارسة وتسمع كلامهم، فقال الرجل لرفقائه ما هي راضية أن تعطيني شيئاً فقالوا لها أعطيه، فلما سمعت كلامهم أعطته الكيس فأخذه الرجل وخرج هارباً منهم، فلما أبطأ عليهم جاءوا إلى الحارسة وقالوا لها مالك لم تعطيه المشط قالت لهم: ما طلب مني إلا الكيس ولم أعطه إياه إلا بإذنكم وخرج من هنا إلى حال سبيله فلما سمعوا كلام الحارسة لطموا على وجوههم وقبضوا عليها بأيديهم، وقالوا لها نحن ما أذناك إلا بإعطاء المشط فقالت لهم ما ذكر لي مشطاً فقبضوا عليها ودفعوها إلى القاضي فلما حضروا بين يديه قصوا عليه القصة فألزم الحارسة بالكيس وألزم بها جماعة من غرمائها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن القاضي لما ألزم الحارسة بالكيس وألزم بها جماعة من غرمائها خرجت وهي حيرانة لم تعرف طريقاً، فلقيها غلام له من العمر خمس سنين فلما رآها الغلام وهي حيرانة قال لها ما بالك يا أماه فلم ترد عليه جواباً واستحقرته لصغر سنه فكرر عليها الكلام أولاً وثانياً وثالثاً فقالت له إن جماعة دخلوا على البستان ووضعوا عندي كيساً فيه ألف دينار وشرطوا علي أن لا أعطي أحداً الكيس إلا بحضورهم كلهم ثم دخلوا البستان يتفرجون ويتنزهون فيه، فخرج واحد منهم وقال أعطني الكيس فقلت له حتى يحضر رفقاؤك فقال لي قد أخذت الإذن منهم، فلم أرض أن أعطيه الكيس فصاح على رفقائه وقال لهم ما هي راضية أن تعطيه شيئاً، فقالوا لي أعطيه وكانوا بالقرب مني فأعطيته الكيس فأخذه وخرج إلى حال سبيله.
