حكاية أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام (1\3)
ومما يحكى أيضاً أنه في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك عظيم الشأن ذو عز وسلطان وكان له وزير يسمى ابراهيم وكانت له ابنة بديعة الحسن والجمال فائقة في البهجة والكمال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد بأن بنت الملك كانت فائقة البهجة والكمال ذات عقل وافر وأدب باهر، إلا أنها تهوى المنادمة والراح والوجوه الملاح ورقائق الأشعار ونوادر الأخبار تدعو العقول إلى الهوى رقة معانيها كما قال فيها بعض واصفيها:
كلفت بها فتانة الـتـرك والـعـرب تجادلني في الفقه والنـحـو والأدب
تقول أنا المفعول بي وخفضـتـنـي لماذا وهذا فاعل فلـم أنـتـصـب
فقلت لها نفسي وروحي لك الـفـدا ألم تعلمي أن الزمان قد انـقـلـب
وإن كنت يوماً تنكـرين انـقـلابـه فها انظري ما عقدة الرأس في الذنب
وكان اسمها الورد في الأكمام، وسبب تسميتها بذلك فرط رقتها وكمال بهجتها وكان الملك محباً منادماً لكمال أدبها، ومن عادة الملك أنه في كل عام يجمع أعيان مملكته ويلعب بالكرة فلما كان ذلك اليوم الذي يجمع فيه الناس للعب بالكرة جلست ابنة الوزير في الشباك لتتفرج فبينما هم في اللعب إذ لاحت منها التفاتة فرأت بين العسكر شاباً لم يكن أحسن منه منظراً ولا أبهى طلعة، نير الوجه ضاحك السن طويل الباع واسع المنكب فكررت فيه مراراً فيه النظر فلم تشبع منه النظر فقالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب المليح الشمائل الذي بين العسكر؟ فقالت لها: يا بنتي الكل ملاح فمن هو فيهم؟ فقالت لها: اصبري حتى أشير لك عليه، ثم أخذت تفاحة ورمتها عليه فرفع رأسه فرأى ابنة الوزير في الشباك كأنها البدر في الأفلاك، فلم يرد إليه طرفه وهو بعشقها مشغول الخاطر فأنشد قول الشاعر:
أرماني القواس أم جفنـاك فتكا بقلب الصب حين رآك
وأتاني السهم المفوق برهة من جحفل أم جاء من شباك
فلما فرغ اللعب قالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب الذي أريته لك؟ قالت اسمه أنس الوجود، فهزت رأسها ونامت في مرتبتها وقدحت فكرتها، ثم صعدت الزفرات وانشدت هذه الأبيات:
ما خاب من سماك أنس الوجود يا جامعاً ما بين أنس الوجـود
يا طلعة البدر الذي وجـهـه قد نور الكون وعم الـوجـود
ما أنت إلا مفرد في الـورى سلطان ذي حسن وعنده شهود
حاجبك النون التـي حـررت ومقلتاك الصاد صنع الـودود
وقدك الغصن الرطيب الـذي إذا دعي في كل شيء يجـود
قد فقت فرسان الورى سطوة ولم تزل بفرط حسنك تسـود
فلما فرغت من شعرها كتبته في قرطاس ولفته في خرقة الحرير مطرزة بالذهب ووضعته تحت المخدة وكانت واحدة من داياتها تنظر إليها فجاءتها وصارت تمارسها حتى فاقت وسرقت الورقة من تحت المخدة وقرأتها، فعرفت أنها حصل لها وجد بأنس الوجود وبعد أن قرأت الورقة وضعتها في مكانها فلما استفاقت سيدتها الورد في الأكمام من نومها قالت لها: يا سيدتي إني لك من الناصحات وعليك من الشفيقات اعلمي أن الهوى شديد وكتمانه يذيب الحديد ويورث الأمراض والأسقام وما على من يبوح بالهوى ملام فقالت لها الورد في الأكمام: يا دايتي وما دواء الغرام؟ قالت: دواؤه الوصال قالت: وكيف يوجد الوصال؟ قالت: يا سيدتي يوجد بالمراسلة ولين الكلام، وإكثار التحية والسلام فهذا يجمع بين الأحباب وبه تسهل الأمور والصعاب وإن كان ذلك أمر يا مولاتي فانا اولى بكتم سرك وقضاء حاجتك وحمل رسالتك.
فلما سمعت منها الورد في الأكمام ذلك طار عقلها من الفرح لكن أمسكت نفسها عن الكلام حتى تنظر عاقبة أمرها وقالت في نفسها: إن هخذا الأمر ما عرفه أحد مني فلا أبوح به لهذه المرأة إلا بعد أن أختبرها فقالت المرأة: يا سيدتي إني رأيت في منامي كأن رجلاً جاءني وقال لي: أن سيدتك وأنس الوجود متحابان فمارسي أمرهما واحملي رسائلهما واقضي حوائجهما واكتمي أمرهما وأسرارهما يحصل لك خير كثير وهاأنا قد قصصت ما رأيت عليك والأمر إليك فقالت الورد في الأكمام لدايتها لما أخبرتها بالمنام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الورد في الأكمام قالت لدايتها لما أخبرتها بالمنام الذي رأته: هل تكتمين الأسرار يا دايتي فقالت لها: كيف لا أكتم الأسرار وأنا من خلاصة الحرار فأخرجت لها الورقة التي كتبت فيها الشعر وقالت لها: اذهبي برسالتي هذه إلى أنس الوجود، فلما دخلت عليه قبلت يديه وحيته بألف سلام ثم أعطته القرطاس فقرأه وفهم معناه ثم كتب في ظهره هذه الأبيات:
أعلل قلبي في الـغـرام وأكـتـم ولكن حالي عن هـواي يتـرجـم
وإن فاض دمعي قلت جرح بمقلتي لئلا يرى حالي العذول فـيفـهـم
وكنت خالياً لست أعرف ما الهوى فأصبحت صباً والـفـؤاد مـتـيم
رفعت إليكم قصتي أشتكـي بـهـا غرامي ووجدي كي ترقواوترحموا
وسطرتها من دمع عيني لعـلـهـا بما حل بي منكم إليكم تـتـرجـم
رعى الله وجهاً بالجمال مـبـرقـاً له البدر عبد والكواكـب تـخـدم
على حسن ذات ما رأيت مثيلـهـا ومن ميلها الأغصان عطفاً تتعلـم
وأسألكم من غير حمـل مـشـقة زيارتنا إن الوصـال مـعـظـم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونـهـا فلي الوصل خلد والصدود جهنـم
ثم طوى الكتاب وقبله واعطاه لها وقال للها: يا داية استعطفي خاطر سيدتك فقالت له: سمعاً وطاعة ثم أخذت منه المكتوب ورجعت إلى سيدتها وأعطتها الققرطاس فقبلته ورفعته فوق رأسها ثم فتحته وقرأته وفهمت معناه وكتبت في أسفله هذه الأبيات:
يا من تولع قلبـه بـجـمـالـنـا أصبر لعلك في الهوى تحظى بنـا
لما علمـنـا أن حـبـك صـادق وأصاب قلبك ما أصاب فـؤادنـا
زدناك فوق الوصل وصلاً مثـلـه لكن منع الوصل من حجـابـنـا
وإذا تجلى الليل من فرط الـهـوى تتوقد النـيران فـي أحـشـائنـا
رجعت مضاجعنا الجنوب وربمـا قد برح التبريح في أجسـامـنـا
الفرض في شرع الهوى كتم الهوى لا ترفعوا المسبول من أستـارنـا
وقد انحشى مني الحشا بهوى الرشا يا ليته ما غاب عـن أوطـانـنـا
فلما فرغت من شعرها طوت القرطاس وأعطته للداية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الورد في الأكمام طوت القرطاس وأعطته للداية فأخذته وخرجت من عند الورد في الأكمام بنت الوزير فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين؟ فقالت: إلى الحمام وقد انزعجت منه فوقعت الورقة حين خرجت من الباب وقت انزعاجها. هذا ما كان من امرها. وأما ما كان من أمر الورقة فإن بعض الخدام رآها مرمية في الطريق فأخذها ثم أن الوزير خرج من باب الحريم وجلس على سريره فقصد الخادم الذي التقط الورقة فبينما الوزير جالس على سريره وإذا بذلك الخادم تقدم إليه وفي يده الورقة وقال له: يا مولاي إني وجدت هذه الورقة مرمية في الدار فاخذتها فتناولها الوزير من يده وهي مطوية فرأى فيها الأشعار التي تقدم ذكرها فقرأها وفهم معناها ثم تأمل كتابتها فرآها بخط ابنته فدخل على أمها وهو يبكي بكاءً شديداً حتى ابتلت لحيته. فقالت له زوجته: ما أبكاك يا مولاي؟ فقال لها: خذي هذه الورقة وانظري ما فيها فأخذت الورقة وقرأتها فوجدتها مشتملة على مراسلة من بنتها الورد في الأكمام إلى أنس الوجود فجاءها البكاء لكنها غلبت في نفسها وكفكفت دموعها وقالت للوزير: يا مولاي إن البكاء لا فائدة فيه وإنما الرأي الصواب أن تبصر أن تتبصر في أمر يكون فيه صون عرضك وكتمان أمر ابنتك وصارت تسليه وتخفف عنه الأحزان فقال لها: إني خائف على ابنتي من العشق اما تعلمين أن السلطان يحب أنس الوجود محبة عظيمة ولخوفي من هذا الأمر سببان: الأول من جهتي وهو أنها ابنتي والثاني من جهة السلطان وهو أن أنس الوجود محظي عند السلطان وربما يحدث من هذا أمر عظيم فما رأيك في ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما أخبر زوجته بخبر ابنته وقال لها: فما رأيك في ذلك؟ قالت له: اصبر علي حتى أصلي صلاة الإستخارة ثم إنها صلت ركعتين سنة الإستخارة فلما فرغت من صلاتها قالت لزوجها: في وسط بحر الكنوز جبلاً يسمى جبل الثكلى وسبب تسميته بذلك سيأتي وذاك الجبل لا يقدر على الوصول إليه أحد إلا بالمشقة فاجعل لها موضعاً هناك فاتفق الوزير مع زوجته على أن يبني فيه قصراً منيعاً ويجعلها فيه ويضع عندها مؤونتها عاماً بعد عام ويجعل عندها من يؤنسها ويخدمها ثم جمع النجارين والبنائين والمهندسين وأرسلهم إلى ذلك الجبل فبنوا لها قصر منيعاً لم ير الراؤون ثم هيأ الزاد والراحلة ودخل على ابنته في الليل وأمرها بالسير فأحس قلبها بالفراق فلما خرجت ورأت هيئة الأسفار بكت بكاءً شديداً وكتبت على الباب تعرف أنس الوجود بما جرى لها من الوجد الذي تقشعر منه الجلود ويذيب الجلمود ويجري العبرات والذي كتبته هذه الأبيات:
بالـلـه يا دار إن مـر ضـحـى مسلـمـاً بـإشـارات يحـيينـا
اهديه منا سلاماً زاكـياً عـطـرا لأنه لـيس يدري أين أمـسـينـا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنـا لما مضوا بي سريعاً مستخـفـياً
في جنح ليل وطير الأيل قد عكفت على الغصن تباكينا وتـنـعـينـا
وقال عنها لسان الحال واحـربـاه من التفرق ما بين المـحـبـينـا
لما رأيت كؤوس البعدقد مـلـئت والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر معـتـذراً وعنكم الآن ليس الصبر يسلـينـا
فلما فرغت من شعرها ركبت وساروا بها يقطعون البراري والقفار والأوعار حتى وصلوا إلى بحر الكنوز ونصبوا الخيام على شاطئ البحر ومدوا لها مركباً عظيمة وأنزلوها فيها هي وعائلتها وقد أمرهم أنهم إذا وصلوا إلى الجبل وأدخلوها في القصر هي وعائلتها يرجعون بالمركب وبعد أن يطلعوا من المركب يكسرونها فذهبوا وفعلوا جميع ما أمرهم به ثم رجعوا وهم يبكون على ما جرى. هذا ما كان من أمرهم. وأما ما كان من أمر أنس الوجود فإنه قام من نومه وصلى الصبح ثم ركب وتوجه إلى خدمة السلطان فمر في طريقه على باب الوزير على جري العادة لعله يرى أحداً من أتباع الوزير الذين كان يراهم ونظر إلى الباب فرأى الشعر المتقدم ذكره مكتوباً علي.فلما غاب عن وجوده واشتعلت النار في أحشائه ورجع إلى داره ولم يقر له قرار ولم يزل في قلق ووجد إلى أن دخل فكتم أمره وتنكر وخرج في جوف الليل هائماً على غير طريق وهو لا يدري أين يسير فسار الليل كله وثاني يوم إلى أن اشتد الحر وتلهبت الجبال واشتد عليه العطش فنظر إلى شجرة فوجد بجانبها جدول ماء يجري فقصد تلك الشجرة وجلس في ظلها على شاطئ ذلك الجدول وأراد أن يشرب فلم يجد للماء طعم في فمه وقد تغير لونه واصفر وجهه وتورمت قدما من المشي والمشقة فبكى بكاءً شديداً وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
سكر العاشق في حب الـحـبـيب كلـمـا زاد غـرامـاً ولـهـيب
هائم فـي الـحـب صـب تــائه ما لـه مـأوى ولا زاد يطــيب
كيف يهنأ العيش لـلـصـب الـذي فارق الأحباب ذا شيء عـجـيب
ذبـت لـمـا ذكـــا وجـــدي بهم وجرى دمعي على خدي صبيب
هل أراهـم أو أرى ربـعـهــم أحداً يبرى به القـلـب الـكـئيب
فلما فرغ من شعره بكى حتى بل الثرى ثم قام من وقته وساعته وسار من ذلك المكان فبينما هو سائر في البراري والقفار إذ خرج عليه سبع رقبته مختنقة بشعره ورأسه قدر القبة وفمه أوسع من الباب وأنيابه مثل أنياب الفيل فلما رآه أنس الوجود أيقن بالموت واستقبل القبلة وتشهد واستعد للموت وكان قد قرأ في الكتب أن من خادع السبع انخدع له له لأنه ينخدع بالكلام الطيب وينتحي بالمديح فشرع يقول له: يا أسد الغابة يا ليث الفضاء يا ضرغام يا أبا الفتيان يا سلطان الوحوش إنني عاشق مشتاق وقد أتلفني العشق والفراق وحين فارقت الأحباب غبت عن الصواب فاسمع كلامي وارحم لوعتي وغربتي. فلما سمع الأسدمقالته تأخر عنه وجلس مقعياً على ذنبه ورفع رأسه إليه وصار يلعب ذنبه ويديه، فلما رأى أنس الوجود هذه الحركات أنشد هذه الأبيات:
أسد البيداء هل تفـلـتـنـي قبل ما ألقى الذي تـيمـنـي
لست صيداً لا ولا بي سمـن فقد من أهواه قد أسقمـنـي
وفراق المحب أضنى مهجتي فمثالي صورة فـي كـفـن
يا أبا الحرث يا ليث الوغـى لا تشمت عاذلي في شجنـي
أنا صب مدمعي غـرقـنـي وفراق الحب قد أقلـقـنـي
واشتغالي في دجى الليل بهـا عن وجودي في الهوى غيبني
فلما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود لما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه بلطف وعيناه مغرغرتان بالدموع، ولما وصل إليه لحسه بلسانه ومشى قدامه وأشار إليه أن اتبعني ولم يزل سائراً وهو معه ساعة من الزمان حتى طلع به فوق جبل، ثم نزل به من فوق ذلك الجبل فرأى أثر المشي في البراري فعرف أن ذلك الأثر أثر مشي قوم بالورد في الأكمام فتبع الأثر ومشى فيه، فلما رآه الأسد يتبع الأثر وعرف أنه أثر مشي محبوبته رجع الأسد إلى حال سبيله.
وأما أنس الوجود فإنه لم يزل ماشياً في الأثر أياماً وليالي حتى أقبل على بحر عجاج متلاطم الأمواج ووصل الأثر إلى شاطئ البحر وانقطع فعلم أنهم ركبوا البحر وساروا فيه وانقطع رجاؤه منهم، والتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً في البرية فخشي على نفسه من الوحوش فصعد على جبل عال فبينما هو في الجبل إذ سمع صوت آدمي يتكلم من مغارة فصغى إليه وإذا هو عابد قد ترك الدنيا واشتغل بالعبادة، فطرق عليه المغارة ثلاث مرات فلم يجبه العابد فصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
كيف السبيل إلى أن أبلـغ الـربـا وأترك الهم والتكدير والتـعـبـا
وكل هول من الأهوال شـيبـنـي قلباً ورأساً مشيباً في زمان صبـا
ولم أجد لي معيناً في الغـرام ولا خلاص يخفف عني الوجد والنصبا
وكم أكابد في الأشواق مـن ولـه كأن دهري علي الآن قد انقلـبـا
وارحمتاه لصب عـاشـق قـلـق كأس التفرق والهجران قد شربـا
فالنار في القلب والأحشاء قد محيت والعقل من لوعة التفريق قد سلبـا
ما كان أعظم يوم جئت منزلـهـم وقد رأيت على الأبواب ما كتـبـا
بكيت حتى سقيت الأرض من حرق لكن كتمت على الدانين والغـربـا
يا عابداً قد تغاضى في مغـارتـه كأن ذلك طعم العشق وانسـلـبـا
وبعـد هـذا وهـذا كـلـه فـإذا بلغت قصدي فلا هماً ولا تعـبـا
فلما فرغ من شعره وإذا بباب المغارة قد انفتح وسمع قائلاً يقول: وارحمتاه، فدخل الباب وسلم على العابد وقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي أنس الوجود، فقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ فقص عيه قصته من أولها إلى آخرها وأخبره ما جرى له فبكى العابد وقال له: يا أنس الوجود إن لي في هذا المكان عشرين عاماً ما رأيت فيه أحداً إلا بالأمس، فإني سمعت بكاءً وغواشاً فنظرت إلى جهة الصوت فرأيت ناساً كثيرين وخياماً منصوبة على شاطئ البحر وأقاموا مركباً ونزل فيه قوم منهم وساروا به في البحر ثم رجع بالمركب بعض من نزل فيه وكسروه وتوجهوا إلى حال سبيلهم، وأظن أن الذين ساروا على ظهر البحر ولم يرجعوا هم الذين أنت في طلبهم يا أنس الوجود وحينئذٍ يكون همك عظيماً وأنت معذور، ولكن لا يوجد محب إلا وقد قاسى الحسرات، ثم أنشد العابد هذه الأبيات:
أنس الوجود خلي البال تحـسـبـنـي والشوق والوجد يطويني وينشـرنـي
إني عرفت الهوى والعشق من صغري من حين كنت صبياً راضع الـلـبـن
مارسته زمناً حـتـى عـرفـت بـه إن كنت تسأل عني فهو يعـرفـنـي
شربت كأس الجوى من لوعةٍ وضنـى فصرت محواً بهـمـن رقة الـبـدن
قد كنت ذا قوة لكـن هـي جـلـدي وجيش صبري بأسياف اللحاظ فـنـي
لا ترتجي في الهوى وصلاً بغير جفـا فالضد بالضد مقرون مدى الـزمـن
قضى الغرام على العشاق أجمعـهـم إن السلـو حـرام بـدعة الـفـنـن
فلما فرغ العابد من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن العابد لما فرغ من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه وتباكيا حتى دوت الجبال من بكائهما. ولم يزالا يبكيان حتى وقعا مغشياً عليهما، ثم أفاقا وتعاهدا على أنهما أخوان في عهد الله تعالى، ثم قال العابد لأنس الوجود: أنا في هذه الليلة أصلي وأستخير الله على شيء تعمله فقال له أنس الوجود: سمعاً وطاعة.
هذا ما كان من أنس الوجود، واما ما كان من أمر الورد في الأكمام فإنها لما وصلوا بها إلى الجبل وأدخلوها القصر ورأته ورأت ترتيبه بكت وقالت: والله إنك مكان مليح غير أنك ناقص وجود الحبيب فيك ورأت في تلك الجزيرة أطياراً فأمرت بعض أتباعها أن ينصب لها فخاً ويصطاد به منها وكل ما اصطاده يضعه في أقفاص من داخل القصر ففعل ما أمرته به، ثم قعدت في شباكالقصر وتذكرت ما جرى لها وزاد بها الغرام والوجد والهيام فبكت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
يا لمن أشتكي الغرام الـذي بـي وشجوني وفرقتني عن حبـيبـي
ولهيباً بين الـضـلـوع ولـكـن لست أبديه خفـية مـن رقـيب
ثم أصبـحـت رق عـود خـلال من بـعـاد وحـرقة ونـحـيب
أين عين الحبيب حتـى تـرانـي كيف أصبحت مثل حال السلـيب
قد تعدو علـي إذ حـجـبـونـي في مكان لم يستطعه حـبـيبـي
أسأل الشمس حمل ألـف سـلام عند وقت الشروق ثم الـغـروب
أحبيب قد أخجل البدر حـسـنـاً منذ تبدى وفاق قد الـقـضـيب
إن حكى الورد خده قـلـت فـيه لست تحكي إن لم تكن من نصيبي
إن في ثغره لـسـلـسـال ريق يجلب البرد عند حر الـلـهـيب
كيف أسلوه وهو قلبـي وروحـي مسقمي ممرضي حبيبي طبيبـي
هذا ما كان من أمر الورد في الأكمام، وأما ما كان من أنس الوجود فإن العابد قال له: انزل إلى الوادي وائتني من الفخيل بليف فنزل وجاء له بليف فأخذه العابد وقتله وجعله شنفاً مثل أشناف التبن وقال له: يا أنس الوجود إن في جوف الوادي فرعاً يطلع وينشف على أصوله فانزل إليه واملأ هذا الشنف منه واربطه وارمه في البحر واركب عليه وتوجه به وسط البحر لعلك تبلغ قصدك، فإن من لم يخاطر بنفسه لم يبلغ المقصود، فقال: سمعاً وطاعة ثم ودعه وانصرف من عند إلى ما أمره به بعد أن دعا له العابد، ولم يزل أنس الوجود سائر إللا جوف الوادي وفعل كما قال له العابد، ولما وصل بالشنف إلى وسط البحر هبت عليه ريح فزقه الشنف حتى غاب عن عين العابد، ولم يزل سابحاً في لجة البحر ترفعه موجة وتحطه أخرى وهو يرى ما في البحر من العجائب والأهوال إلى أن رمته المقادير على جبل الثكلى بعد ثلاثة أيام من فنزل إلى البر مثل الفرخ الدايخ لهفان من الجوع والعطش فوجد في ذلك المكان أنهاراً جارية وأطياراً مغردة على الأغصان وأشجاراً مثمرة صنواناً وغير صنوان فأكل من الأثمار وشرب من الأنهار وقام يمشي فرأى بياضاً على بعد فمشى جهته حتى وصل إليه فوجده قصراً منيعاً حصيناً فأتى إلى باب القصر فوجده مقفولاً فجلس عنده ثلاثة أيام.
فبينما هو جالس وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه شخص من الخدم فرأى أنس الوجود قاعداً فقال له: من أين أتيت ومن أوصلك إلى هنا؟ فقال أنس الوجود: من أصبهان وكنت مسافراً في البحر بتجارة فانكسر المركب الذي كنت فيه فرمتني الأمواج على ظهر هذه الجزيرة، فبكى الخادم وعانقه وقال: حياك الله يا وجه الأحباب أن أصبهان بلادي ولي فيها بنت عم كنت أحبها وأنا صغير وكنت مولعاً بها فغزى بلادنا قوم أقوى منا وأخذوني في جملة الغنائم وكنت صغيراً فقطعوا إحليلي ثم باعوني خادماً وهاأنا في تلك الحالة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم الذي خرج من قصر الورد في الأكمام حدث أنس الوجود بجميع ما حصل وقال له أن القوم الذين أخذوني قطعوا إحليلي وباعوني خادماً وهاأنا في تلك الحالة، وبعدما سلم عليه وحياه أدخله ساحة القصر، فلما دخل رأى بحيرة عظيمة وحولها أشجار وأغصان وفيها أطيار في أقفاص من فضة وأبواباها من الذهب وتلك الأقفاص معلقة على الأغصان والأطيار فيها تناغي وتسبح الديان، فلما وصل إلى أولها تأمله فإذا هو قمري فلما رآه الطير مد صوته وقال: يا كريم فغشي على أنس الوجود، فلما أفاق من غشيته صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أيها القمري هل بمثلي تـهـيم فاسأل المولى وغرد يا كـريم
يا ترى نوحـك هـذا طـرب أو غرام منك في القلوب مقيم
أن تنح وجداً لأحباب مـضـوا أو خلفت بهم مضنى سـقـيم
أو فقدت الحب مثلي في الهوى فالتجافي يظهر الوجد القـديم
يا رعى الله محبـاً صـادقـاً لست أسلوه ولو عظمي رميم
فلما فرغ من شعره بكى حتى وقع مغشياً عليه، وحين أفاق من غشيته مشى حتى وصل إلى ثاني قفص فوجده فاختاً، فلما رآه الفاخت غرد وقال: يا دايم أشكرك، فصعد أنس الوجود الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
وفاخت قد طال فـي نـوحـه يا دائماً شكراً على بـلـوتـي
عسى لعل الله مـن فـضـلـه يقضي بوصل الحب في سفرتي
ورب معسول اللمـى زارنـي فزادني عشقاً على صبـوتـي
قلت والنيران قـد أضـرمـت في القلب حتى أحرقت مهجتي
والدمع مسفوك يحـاكـي دمـاً قد فاض يجري على وجنـتـي
ما تم مخـلـوق بـلا مـحـنة لكن لي صبراً على محنـتـي
بقدرة اللـه مـتـى لـمـنـي وقت الصفا يوماً على سادتـي
جعلت للعشاق مـالـي قـرى لأنهم قوم عـلـى سـنـتـي
وأطلق الأطيار من سجـنـهـا واترك الأحزان من فرحـتـي
فلما فرغ من شعره تمشى إلى ثالث قفص فوجده هزاراً، فزعق الهزار عند رؤيته، فلم سمعه أنشد هذه الأبيات:
إن الهزار لطيف الصوت يعجبنـي كأنه صوت صب في الغرام فنـي
وارحمتاه على العشاق ثم قلـقـوا من ليلة بالهوى والشوق والمحـن
كأنهم من عظيم الشوق قد خلـفـوا بلا صباح ولا نوم من الـشـجـن
لما جننت بمـن أهـواه قـيدنـي فيه الغرام ولمـا فـيه قـيدنـي
تسلسل الدمع من عيني فقلـت لـه سلاسل الدمع قد طالت فسلسلنـي
زاد اشتياقي وطال البعد وانعدمـت كنوز صبري وفرط الوجد أتلفنـي
إن كان في الدهر أنصاف ويجمعني بمن أحب وستر الله يشمـلـنـي
قلعت ثوبي لحبي كي يرى جسـدي بالصد والبعد والهجران كيف ضني
فلما فرغ من شعره تمشى إلى رابع قفص فوجده بلبلاً، فناح وغرد عند رؤية أنس الوجود، فلما سمع تغريده سكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
إن للبلبل صوتاً في الـسـحـر شعل العاشق من حسن التوتر
في الهوى أنس الوجود المشتكي من غرام قد محا منـه الأثـر
كم سمعنا صوت ألحان محـت طرباً صلد الحديد والحـجـر
ونسيم الصبح قـد يروي لـنـا عن رياض يانعات بالـزهـر
فطربـنـا بـسـمـاع وشـذا من نسيم وطيور في السحـر
وتذكـرنـا حـبـيبـاً غـائبـاً فجرى الدمع سيولاً ومـطـر
ولهيب النار فـي أحـشـائنـا مضمر ذاك كجمر بالـشـرر
متع الله مـحـبـاً عـاشـقـاً من حبيب بوصـال ونـظـر
إن للعشاق عـذراً واضـحـاً ليس يدري العذر إلا ذو النظر
فلما فرغ من شعره مشى قليلاً فرأى قفصاً حسناً لم يكن هناك أحسن منه فلما قرب منه وجده حمام الأيك وهو اليمام المشهور من بين الطيور فوجده ذاهلاً باطلاً ينوح الغرام وفي عنقه عقد من جوهر بديع النظام ونأمله فوجده ذاهلاً باطلاً باهتاً في قفصه فلما رآه بهذا الحال أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
يا حمام الأيك أقرئك الـسـلام يا أخا العشاق من أهل الغـرام
إنني أهـوى غـزالاً أهـيفـاً لحظة أقطع من حد الحـسـام
في الهوى أحرق قلبي والحشى وعلا جسمي تحول وسـقـام
ولذيذ الـزاد قـد أحـرمـتـه مثل ما احرمت من طيب المنام
واصطباري وسـلـوى رحـلا والهوى بالوجد عندي قد أقـام
كيف يهنأ العيش لي من بعدهـم وهم روحي وقصدي والمـرام
فلما فرغ أنس الوجود من شعره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح...
يتبع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق