تتمة ...
حكاية أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام (2\3)
وفي الليلة السابعة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود لما فرغ من شعره التفت إلى صاحبه الأصبهاني وقال له: ما هذا القصر ومن هو الذي بناه؟ قال له: بناه وزير الملك الفلاني لابنته خوفاً عليها من عوارض الزمان وطوارق الحدثان وأسكنها فيه هي وأتباعها ولا تفتحه إلا في كل سنة مرة لما تأتي إليهم مؤونتهم فقال في نفسه: قد حصل المقصود ولكن المدة طويلة، هذا ما كان من أمر أنس الوجود وأما ما كان من أمر الورد في الأكمام فإنها لم يهنأ لها شراب ولا طعام ولا قعود ولا منام فقامت وقد زاد بها الغرام والهيام ودارت في أركان القصر فلم تجد لها مصرفاً فسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
حبسوني عن حبـيبـي قـوة وأذاقوني بسجني لوعـتـي
أحرقوا قلبي بنيران الـهـوى حيث ردوا عن حبيبي نظرتي
حبسوني في قصـور شـيدت في جبال خلقت فـي لـجة
إن يكونوا قد رأوا ستـرتـي لم تزد في الحب إلا محنتـي
كيف أسلو والذي بي كـلـه أصله في وجه حبي نظرتي
فنهاري كـلـه فـي أسـف أقطع الليل بهم في فكرتـي
وأنيسي ذكرهم في وحـدتـي حين ألقى منم لقاهم وحشتي
يا ترى هل بعد هـذا كـلـه يسمح الدهر بلقيا مـنـيتـي
فلا فرغت من شعرها طلعت إلى سطح القصر وأخذت أثواباً بعلبكية وربطت نفسها فيها حتى وصلت إلى الأرض وقد كانت لابسة أفخر ما عندها من اللباس وفي عنقها عقد من الجواهر وسارت في تلك البراري والقفار حتى وصلت إلى شاطئ البحر فرأت صياداً في مركب دائر في البحر يصطاد فرماه الريح على تلك الجزيرة فالتفت فرأى الورد في الأكمام في تلك الجزيرة، فلما رآها فزع منها وخرج بالمركب هارباً فنادته وأكثرت إليه الإشارات وأنشدت هذه الأبيات:
يا أيها الصياد لا تخشى الـكـدر غنني إنسية مـثـل الـبـشـر
أريد منك أن تجـيب دعـوتـي وتسمعن قولي بإسناد الـخـبـر
فارحم وقال الله حر صبـوتـي إن أبصرت عيناك محبوباً نفـر
فإنني أهوى ملـيحـاً وجـهـه فاق وجه الشمس نور القـمـر
والظبي لمـا رأى ألـحـاظـه قد قال إني عبده ثـم اعـتـذر
قد كتب الحسن على وجـنـتـه سطراً بديعاً في المعاني مختصر
فمن رأى نور الهوى قد اهتـدى أما الذي ضل تعـدى وكـفـر
إن شاء تعذيبـي بـه يا حـبـذا فكل ما ألـقـاه أجـراً وأجـر
ومن يواقيت ومـا أشـبـهـهـا ولؤلؤ رطـب وأنـواع الـدرر
عسى حبيبي أن يوحي بالمـنـى فإن قلبي ذاب شوقاً وانفـطـر
فلما سمع الصياد كلامها أرسى مركبه على البر وقال لها: انزلي في المركب حتى أعدي بك إلى أي موضع تريدين فنزلت في المركب وعوم بها فلما فارق البر بقليل هبت على المركب ريح من خلفها فسارت المركب بسرعة حتى غاب البر عن أعينهما، وصار الصياد لا يعرف أن يذهب ومكث اشتداد الريح مدة ثلاثة أيام ثم سكن الريح بإذن الله تعالى ولم تزل المركب تسير بهما حتى وصلت إلى مدينة على شاطئ البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المركب لما وصلت بالصياد والورد في الأكمام إلى مدينة على شاطئ البحر أراد الصياد أن يرسي مركبه على تلك المدينة وكان فيها ملك عظيم السطوة يقال له درباس وكان في ذلك الوقت جالساً هو وابنه في قصر مملكته وصارا ينظران من شباك القصر فالتفتا إلى جهة البحر فرأيا تلك المركب فتأملاها فوجدا فيها صبية كأنها البدر في أفق السماء وفي أذنيها حلق من البلخش الغالي وفي عنقها عقد من الجوهر النفيس فعرف الملك أنها من بنات الأكابر والملوك فنزل الملك من قصره وخرج من باب القيطون فرأى المركب قد رست على الشاطئ وكانت البنت نائمة والصياد مشغولاً بربط المركب فأيقظها الملك من منامها فاستيقظت وهي تبكي فقال لها الملك: من أين أنت وابنة من أنت وما سبب مجيئك هنا؟ فقالت له الورد في الأكمام: أنا ابنة إبراهيم وزير الملك الشامخ وسبب مجيئي هنا أمر عجيب وحكت له جميع قصتها من أولها إلى آخرها ولم تخف عنه شيئاً ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
قد قرح الدمع جفني فاقتضى عجبـاً من التكدر لما فاض وانـسـكـبـا
من أجل خل سوى في مهجتي أبـداً ولم أنل في الهوى من وصله أربـا
له محيا جـمـيل بـاهـر نـضـر وفي الملاحة فاق الترك والعـربـا
والشمس والبدر قد مالا لطلـعـتـه كالصب والتزما في حـبـه الأدبـا
وطرفه بعجيب السحر مكـتـحـل يريك قوساً لرمي السهم منتصـبـا
يا من له حالتي أوضحت معـتـذراً ارحم محباً به صرف الهوى لعـبـا
إن الهوى قد رماني في وسط ساحتكم ضعيف عزم ومنكم ارتجى حسـبـا
إن الكرام إذا ما حل سـاحـتـهـم مستحسب فحماهم يرفع الحـسـبـا
فاستر فضائح أهل العشق يا أمـلـي وكن لوصلتـهـم يا سـيدي سـبـا
فلما فرغت من شعرها حكت للملك قصتها من أولها إلى آخرها فقال لها: لا خوف عليك ولا فزع قد وصلت إلى مرادك، فلا بد أن أبلغك ما تريدينه وأوصل إليك ما تطلبينه فاسمعي مني هذه الكلمات ثم أنشد هذه الأبيات:
بنت الكرام بلغت القصد والأربا لك البشارات لا تخشى هنا نصبا
اليوم أجمع أمـوالاً وأرسـلـهـا لشامخ صحبة الفرسان والنجـبـا
نوافح المسك والديباج أرسـلـهـا وأرسل الفضة البيضاء والذهبـا
نعم وتخبره عني مـكـاتـبـتـي أني مريداً له صهراً ومنتـسـبـا
وأبذل اليوم جهدي في معـاونـه حتى يكون الذي تهوين مقتـربـا
قد ذقت طعم الهوى دهراً وأعرفه وأعذر اليوم من كأس الهوى شربا
فلما فرغ من شعره خرج إلى عسكره ودعا بوزيره وحزم له مالاً لا يحصى وأمره أن يذهب بذلك إلى الملك الشامخ وقال له: لا بد أن تأتيني بشخص اسمه أنس الوجود وقل له: أنه يريد مصاهرتك بأن يزوج ابنته لأنس الوجود تابعك فلا بد من إرساله معي حتى نعقد عقده عليها في مملكة أبيها ثم أن الملك درباس كتب مكتوباً للملك الشامخ بمضمون ذلك وأعطاه لوزيره وأكد عليه في الإتيان بأنس الوجود وقال له: إن لم تأتني به تكون معزولاً عن مرتبتك فقال له: سمعاً وطاعة ثم توجه بالهدية إلى الملك الشامخ فلما وصل إليه بلغه السلام عن الملك درباس وأعطاه المكاتبة والهدية التي معه فلما رآه الملك الشامخ وقرأ المكاتبة ونظر اسم أنس الوجود بكى بكاءً شديداً وقال للوزير المرسل إليه: وأين أنس الوجود فإنه ذهب ولا نعلم مكانه فأتني به وأنا أعطيك أضعاف ما جئت به من الهدية، ثم بكى وأنّ واشتكى وافاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
ردوا علي حـبـيبـي لا حاجة لي بـمـال
ولا أريد هــــدايا من جواهـر ولآلـي
قد كان عنـدي بـدراً سما بأفـق جـمـال
وفاق حسناً ومعـنـى ولم يقـس بـغـزال
وقـد غـصـن بـان أثـمـاره مـن دلال
وليس في الغصن طبع يسبي عقول الرجـال
ربيبه وهـو طـفـل على مهـاد الـدلال
وإنـنـي لـحــزين عليه مشغول البـال
ثن التفت إلى الوزير الذي جاء بالهدية والرسالة وقال له: اذهب إلى سيدك وأخبره أن أنس الوجود مضى عام وهو غائب وسيده لم يدر أين ذهب ولا يعرف له خبر فقال له الوزير: يا مولاي إن سيدي قال لي إن لم تأتني به تكن معزولاً عن الوزارة ولا تدخل مدينتي فكيف أذهب إليه بغيره فقال الملك الشامخ لوزيره ابراهيم: اذهب معه صحبة جماعة وفتشوا على أنس الوجود في سائر الأماكن فقال له: سمعاً وطاعة ثم أخذ من أتباعه واصطحب وزير الملك درباس وساروا في طلب أنس الوجود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابراهيم وزير الملك الشامخ أخذ جماعة من أتباعه واصطحب وزير الملك درباس وساروا في طلب أنس الوجود فكانوا كلما مروا بعرب أو قوم يسألونهم عن أنس الوجود فيقولون لهم: هل مر بكم شخص اسمه كذا وصفته كذا وكذا؟ فيقولون: لا نعلمه وما زالوا يسألون المدائن والقرى ويفتشون في السهول والأوعار والبراري والقفار حتى وصلوا إلى شاطئ البحر وطلعوا في مركب ونزلوا فيها وساروا بها حتى أقبلوا على جبل الثكلى. فقال وزير الملك درباس لوزير الملك الشامخ: لأي شيء سمي هذا الجبل بذلك الاسم؟ فقال له: لأنه نزلت به جنية في قديم الزمان وكانت نلك الجنية من جن الصين وقد أحبت إنساناً ووقع له معها غرام وخافت على نفسها من أهلها فلما زاد بها الغرام فتشت في الأرض على مكان تخفيه فيه عن أهلها فوجدت هذا الجبل منقطعاً من الإنس والجن بحيث لا يهتدي إلى طريقه أحد من الإنس والجن فاختطفت محبوبها ووضعته فيه وصارت تذهب إلى أهلها وتأتيه في خفية ولم تزل على ذلك زمناً طويلاً حتى ولدت منه في ذلك الجبل أطفالاً متعددة وكا كل من يمر على هذا الجبل من التجار والمسافرين في البحر يسمع بكاء الأطفال كبكاء المرأة التي ثكلت أولادها أي فقدتهم فقيقول: هل هنا ثكلى فتعجب وزير الملك درباس من هذا الكلام.
ثم إنهم ساروا حتى وصلوا إلى القصر وطرقوا الباب فانفتح الباب فخرج لهم خادم فعرف ابراهيم وزير الملك الشامخ فقبل يده ثم دخل القصر فوجد في فسحته رجلاً فقيراً بين الخدامين وهو أنس الوجود فقال لهم: من أين هذا؟ فقالوا له: إنه رجل تاجر غرق ماله ونجا بنفسه وهو مجذوب فتركه، ثم مشى إلى داخل القصر فلم يجد لابنته أثراً فسأل الجواري التي هناك فقلن له: ما عرفنا كيف راحت ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة فسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
أيها الدار الـتـي أطـيارهـا قد تغنت وازدهت أعتابـهـا
فأتاها الصب ينعـي شـوقـه ورآها فتـحـت أبـوابـهـا
ليت شعري أين ضاعت مهجتي عند دار قد نـأى أربـابـهـا
كان فيها كل شـيء فـاخـر واستطاعت واعتلى حجابـهـا
وكسوها حلل مـن سـنـدس يا ترى أين غدت أصحابـهـا
فلما فرغ من شعره بكى وأنّ واشتكى وقال: لا حيلة في قضاء الله ولا مفر مما قدره وقضاه، ثم طلع إلى سطح القصر فوجد الثياب البعلبكية مربوطة في شرارف واصلة إلى الأرض فعرف أنها نزلت من ذلك المكان وراحت كالهائج الولهان والتفت فرأى هناك طيرين غراباً وبومة فتشاءم من ذلك وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أتيت إلـى دار الأحـبة راجـياً بآثارهم اطفاء وجدي ولوعتـي
فلم أجد الأحباب فيها ولـم أجـد بها غير مشؤمي غراب وبومة
وقال لسان الحال قد كنت ظالماً وفرقت بين المغرمين الأحـبة
فذق طعم ما ذاقوه من ألم الجوى وعش كمداً ما بين دمع وحرقة
ثم نزل من فوق القصر وهو يبكي وقد أمر الخدام أن يخرجوا إلى الجبل ويفتشوا على سيدتهم ففعلا ذلك فلم يجدوها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر أنس الوجود فإنه لما تحقق أن الورد في الأكمام قد ذهبت صاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه واستمر في غشيته فظنوا أنه أخذته جذبة من الرحمن واستغرق في جمال هيبة الديان ولما يئسوا من وجود أنس الوجود واشتغل قلب الوزير ابراهيم بفقد ابنته الورد في الأكمام أرارد وزير الملك درباس أن يتوجه إلى بلاده وإن لم يفز من سفره بمراده. فأخذ يودعه الوزير ابراهيم والد الورد في الأكمام فقال له وزير الملك درباس: إني أريد أن آخذ هذا الفقير معي عسى الله أن يعطف على الملك ببركته لأنه مجذوب، ثم بعد ذلك أرسله إلى بلاد أصبهان لأنها قريبة من بلادنا، فقال: افعل ما تريد، ثم انصرف كل منهما متوجه إلى بلاده وقد أخذ وزير الملك درباس أنس الوجود معه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العاشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن وزير الملك درباس أخذ أنس الوجود وهو مغشي عليه وسار ثلاثة أيام وهو في غشيته محمولاً على البغال ولا يدري هل هو محمول أو لا، فلما أفاق من غشيته قال: في أي مكان أنا؟ فقالوا له: أنت صحبة وزير الملك درباس، ثم ذهبوا إلى الوزير وأخبروه أنه قد أفاق فأرسل إليه ماء الورد والسكر فيقوه وأنعشوه ولم يزالوا مسافرين حتى قربوا من مدينة الملك درباس فأرسل الملك إلى الوزير يقول له: إن لم يكن أنس الوجود معك فلا تأتي أبداً.
فلما قرأ مرسوم الملك عسر عليه ذلك وكان الوزير لا يعلم أن الورد في الأكمام عند ولا يعلم سبب إرسال الملك إياه إلى أنس الوجود ولا يعلم أن الوزير مرسل في طلبه والوزير لا يعلم أن هذا هو أنس الوجود فلما رأى الوزير أن أنس الوجود قد استفاق قال له: إن الملك أرسلني في حاجة وهي لم تقض ولما علم بقدومي أرسل إلي مكتوباً يقول لي فيه: إن لم تكن الحاجة قضيت فلا تدخل مدينتي، فقال له: وما حاجة الملك؟ فحكى له جميع الحكاية فقال له أنس الوجود: لا تخف واذهب إلى الملك وخذني معك وأنا أضمن مجيء أنس الوجود. ففرح الوزير بذلك وقال له: أحق ما تقول؟ فقال: نعم، فركب وأخذه معه وسار به إلى الملك فلما وصلا إلى الملك قال له: أين أنس الوجود؟ فقال له أنس الوجود: أيها الملك أنا أعرف مكان أنس الوجود فقربه الملك إليه وقال له: في أي مكان هو؟ قال: في مكان قريب جداً ولكن أخبرني ماذا تريد منه وأنا أحضره بين يديك فقال له: حباً وكرامة ولكن هذا الأمر يحتاج إلى خلوة. ثم أمر الناس بالإنصراف ودخل معه خلوة وأخبره الملك بالقصة من أولها إلى آخرها فقال له أنس الوجود: ائتيني بثياب فاخرة وألبسني إياها وأنا آتيك بأنس الوجود سريعاً فأتاه ببدلة فاخرة فلبسها وقال: أن أنس الوجود وكمد الحسود، ثم رمى القلوب باللحظات وأنشد هذه الأبيات:
يؤانسني ذكر الحبيب بـخـلـوتـي ويطرد عني في التباعد وحشـتـي
وما لي غير الدمع عـين وإنـمـا إذا فاض من عيني يخفف زفرتي
وشوقي شديد ليس يوجـد مـثـلـه وأمري عجيب في الهوى والمحبة
فأقطع ليلي ساهر الجفن لـم أنـم وفي العشق أسعى بين نـاروجـنة
وقد كان لي صبر جميل عدمـتـه وما منحني في الحب إلا بمحنتـي
وقد رق جسمي من أليم بعـادهـم وغيرت الأشواق وصفي وصورتي
وأجفان عيني بالدموع تـقـرحـت ولم أستطع أني أرجع دمـعـتـي
وقد قل حيلي والفـؤاد عـدمـتـه وكم ذا لاقى لوعة بـعـد لـوعة
وقلبي ورأسي بالمشيب تشـابـهـا على سادة بالحسن أحسـن سـادة
على زعمهم كان التفرق بـينـنـا وما قصدهم إلا لقائي ووصلـتـي
فيا هل ترى بعد التقاطع والـنـوى أيمنعني دهري بوصل أحـبـتـي
ويطوي كتاب البعد من بعد نشـره وتمحى براحات الوصال مشقتـي
ويبقى حبيبي في الديار منـادمـي وتبدل أحزاني بصفو سـريرتـي
فلما فرغ من شعره قال له الملك: والله إنكما لمحبان صادقان وفي سماء الحسن كوكبان نيران وأمركما عجيب وشأنكما غريب، ثم حكى له حكاية الورد في الأكمام إلى آخرها فقال له: وأين هي يا ملك الزمان؟ قال: هي عندي الآن، ثم أحضر الملك القاضي والشهود وعقد عقدها عليه وأكرمه وأحسن إليه، ثم أرسل الملك درباس إلى الملك الشامخ وأخبره بجميع ما اتفق له من أمر أنس الوجود والورد في الأكمام، ففرح الملك الشامخ بذلك غاية الفرح وأرسل إليه مكتوباً مضمونه حيث حصل عقد العقد عندك ينبغي أن يكون الفرح والدخول عندي.
ثم جهز الجمال والخيل والرجال وأرسل في طلبهما، فلما وصلت الرسالة إلى الملك درباس أمدهما بمال عظيم وأرسلهما مع جملة عسكره فساروا بهما جتى دخلوا مدينتهما وكان يوماً مشهوداً لم ير أعظم منه، وجمع الملك الشامخ سائر المطربات من آلات المغاني وعمل الولائم ومكثوا على ذلك سبعة أيام، وفي كل يوم يخلع الملك الشامخ على الناس الخلع السنية ويحسن إليهم، ثم إن أنس الوجود دخل على الورد في الأكمام فعانقها وأخذا يبكيان من فرط الفرح والمسرات وأنشد هذه الأبيات:
ثم جهز الجمال والخيل والرجال وأرسل في طلبهما، فلما وصلت الرسالة إلى الملك درباس أمدهما بمال عظيم وأرسلهما مع جملة عسكره فساروا بهما جتى دخلوا مدينتهما وكان يوماً مشهوداً لم ير أعظم منه، وجمع الملك الشامخ سائر المطربات من آلات المغاني وعمل الولائم ومكثوا على ذلك سبعة أيام، وفي كل يوم يخلع الملك الشامخ على الناس الخلع السنية ويحسن إليهم، ثم إن أنس الوجود دخل على الورد في الأكمام فعانقها وأخذا يبكيان من فرط الفرح والمسرات وأنشد هذه الأبيات:
جاء السرور أزال الهم والحزنـا ثم اجتمعنا وأكمدنا حواسـدنـا
ونسمة الوصل قد هبت معطرة فأحيت القلب والأحشاء والبدنـا
وبهجة الأنس قد لاحت مخلـقة وفي الخوافق قد دقت بشائرنـا
لا تحسبوا اننا باكون من حـزن لكن من فرح فاضت مدامعنـا
فكم رأينا من الأهوال وانصرفت وقد صبرنا على من هيج الشجنا
فساعة من وصال قد نسيت بها ما كان من شدة الأهوال شيبنا
فلما فرغ من شعره تعانقا ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشياً عليهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود والورد في الأكمام لما اجتمعا متعانقين ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشياً عليهما من لذة الإجتماع فلما أفاقا من غشيتهما أنشد أنس الوجود هذه الأبيات:
ما أحلاهـا لـيلات الـوفـا حيث أمسى لي حبيبي منصفا
وتوالى الوصل فيما بـينـنـا وانفصال الهجر عنا قد وفى
وإلينا الدهر يسعى مـقـبـلاً بعد ما مال وعنا انحـرفـا
نصب السعد لنـا أعـلامـه وشربنا منه كأساً قد صـفـا
واجتمعنا وتشاكـينـا الآسـى ولليلات تقضت بالـجـفـا
ونسينا ما مضى يا سـادتـي وعفا الرحمن عما سـلـفـا
ما ألذ العـيش مـا أطـيبـه لم يزدني الوصل إلا شغفـا
فلما فرغ من شعره تعانقا واضطجعا في خلوتهما، ولم يزالا في منادمة وأشعار ولطف وحكايات وأخبار حتى غرقا في بحر الغرام ومضت عليهما سبعة أيام وهما لا يدريان ليلاً من نهار لفرط ما هما فيه من لذة وسرور وصفو وحبور، فكأن السبعة أيام يوم واحد ليس له ثاني، وما عرفا يوم الأسبوع إلا بمجيء آلات المغاني، فأكثرت الورد في الأكمام المتعجبات وأنشدت هذه الأبيات:
ومن طيب الوصال فليس ندري بأوقات البعيد من الـقـريب
ليالي سبعة مـرت عـلـينـا ولم نشعر بها كم من عجـيب
فهنوني بأسـبـوع وقـولـوا أدام الله وصلك بالـحـبـيب
فلما فرغت من شعرها قبلها أنس الوجود ما ينوف عن المئات ثم أنشد هذه الأبيات:
أتى يوم الشرور مع التهانـي وجاء الحب من صدوفـانـي
فآنسني بطيب الوصل مـنـه ونادمني بألطاف المعـانـي
وأسقاني شراب الأنس حتـى ذهلت عن الوجود بما سقاني
فطربنا وانشرحنا واضطجعنـا وصرنا في شراب مع أغاني
ومن فرط السرور فليس ندري من الأيام أولـهـا وثـانـي
ولا يدري لمر الصد طعـمـاً وربي قد حباه بما حـبـانـي
فلما فرغ من شعره قاما وخرجا من مكانهما وأنعما على الناس بالمال والخلع وأعطيا ووهبا إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان من لا يحول ولا يزول وإليه كل الأمور تؤول.
ومما يحكى أن الخليفة هارون الرشيد كان يحب السيدة زبيدة محبة عظيمة وخصص لها مكاناً للتنزه وعمل لها سياجاً من الأشجار وأرسل إليها الماء من كل جانب فالتفت عليها الأشجار حتى لو دخل أحد يغتسل في تلك البحيرة لم يره أحد من كثرة أوراق الشجر، فاتفق أن السيدة زبيدة دخلت ذلك المكان يوماً وأتت إلى البحيرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة زبيدة لما دخلت ذلك المكان يوماً وأتت إلى البحيرة وتفرجت على حسنها وجمالها فأعجبها رونقها والتفاف الأشجار عليها وكان ذلك في يوم الحر فقلعت أثوابها ونزلت إلى البحيرة ووقفت وكانت البحيرة لا تستر من يقف فيها فجعلت تملأ بإبريق من عين وتصب على بدنها فعلم الخليفة بذلك فنزل من قصره يتجسس عليها من خلف أوراق الأشجار فرآها عريانة وقد بان منها ما كان مستور، فلما أحست بأمير المؤمنين خلف أوراق الأشجار وعرفت أنه رآها عريانة التفتت إليه ونظرته فاستحسنت منه ووضعت يدها على فرجها ففاض من بين يديها لفرط كبره وغلظه، فولى من ساعته وهو يتعجب من ذلك وينشد هذا البيت:
نظرت عيني لحيني وزكا وجدي لبيني
ولم يدر بعد ذلك ما يقول، فأرسل خلف أبي نواس يحضره، فلما حضر بين يديه قال له الخليفة: أنشدني شعراً في أوله:
نظرت عيني لحيني وزكا وجدي لبيني
فقال أبو نواس: سمعاً وطاعة، وارتجل في أقرب اللحظات وأنشد هذه الأبيات:
نظرت عيني لحيني وزكا وجدي لبينـي
من غزال قد سباني تحت ظل الدرتـين
سكب الماء عـلـيه بأباريق اللـجـين
نظرتني سـتـرتـه فاض من بين اليدين
ليتني كنت عـلـيه ساعة أو ساعتـين
فتبسم أمير المؤمنين من كلامه وأحسن إليه وانصرف من عنده مسروراً.
ومما يحكى أن الملك العادل كسرى أنوشروان ركب يوماً إلى الصيد فانفرد عن عسكره ظبي فبينما هو ساع خلف الظبي إذ رأى ضيعة قريبة منه وكان قد عطش عطشاً شديداً فتوجه إلى تلك الضيعة وقصد دار باب قوم في طريقه فطلب ماء ليشرب فخرجت صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت وعصرت له عوداً من قصب السكر ومزجت ما عصرته منه بالماء ووضعته في قدح ووضعت عليه شيئاً من الطيب يشبه التراب ثم سلمته إلى أنوشروان فنظر في القدح فرأى فيه شيئاً يشبه التراب فجعل يشرب منه قليلاً حتى انتهى إلى آخره ثم قال للصبية: أيتها الصبية نعم الماء ما أحلاه لولا ذلك القذي الذي فيه فإنه كدره فقالت الصبية: أيها الضيف أنا عمداً ألقيت فيه ذلك القذي الذي كدره فقال الملك: ولم فعلت ذلك؟ فقالت: لأني رأيتك شديد العطش وخفت أن تشربه نهلة واحدة فيضرك فلو لم يكن فيه قذي لكنت شربته بسرعة نهلة واحدة وكان يضرك شربه على هذه الطريقة فتعجب الملك العادل أنوشروان من كلامها وذكاء عقلها وعلم أن ما قالته ناشئ عن ذكاء وفطنة وجودة عقل فقال لها: من أي عود عصرت ذلك الماء؟ فقالت: من عود واحد فتعجب أنوشروان وطلب جريدة الخراج الذي يحصل من تلك القرية فرأى خراجها قليلاً فأضمر في نفسه أنه إذا عاد إلى تخته يزيد في خراج تلك القرية وقال: قرية يكون في عود واحد منها هذا الماء كيف يكون خراجها هذا القدر القليل ثم انصرف عن تلك القرية إلى الصيد وفي آخر النهار رجع إليها، واجتاز على ذلك الباب منفرداً وطلب الماء ليشرب فخرجت تلك الصبية بعينها فرأته فعرفته ثم عادت لتخرج له الماء فأبطأت عليه فاستعجلها أنوشروان وقال: لأي شيء أبطأت؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أنوشروان لما استعجل الصبية قال لها: لأي شيء أبطأت؟ فقالت: لأنه لم يخرج من عود واحد قد تغيرت فقال لها: وما سبب ذلك؟ فقالت: سببه أن نية السلطان قد تغيرت فقال لها: من أين جاءك؟ قالت: سمعنا من العقلاء أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم زالت بركتهم وقلت خيراته فضح أنوشروان وأزال من نفسه ما كان أضمر لهم عليه، وتزوج بتلك الصبية حالاً حيث أعجبه فرط ذكائها وفطنتها وحسن كلامها.
ومما يحكى أنه كان رجل بخاري بمدينة سقا يحمل بالماء إلى دار رجل صائغ ومضى له على تلك الحالة ثلاثون سنة وكان لذلك الصائغ زوجة في غاية الحسن والجمال والبهاء والكمال موصوفة بالديانة والحفظ فجاء السقا على عادته يوماً وصب الماء في الخباب وكانت قائمة في وسط الدار فدنا منها السقا وأخذ بيدها وفركها وعصرها ثم مضى وتركها، فلما جاء زوجها من السوق قالت له: إني أريد أن تعرفني أي شيء صنعت هذا اليوم في السوق ما يغضب الله تعالى؟ فقال الرجل: ما صنعت شيئاً يغضب الله تعالى فقالت المرأة: بلى والله إنك فعلت شيئاً يغضب الله تعالى وإن لم تحدثني بما صنعت وتصدقني في حديثك لا أقعد في بيتك ولا تراني ولا أراك فقال: أخبرك بما فعلته في يومي هذا على وجه الصدق اتفق لي أنني جالس في الدكان على عادتي إذا جاءت امرأة إلى دكاني وأمرتني أن أصوغ لها إسواراً وانصرفت فصغت لها سواراً من ذهب ورفعته فلما حضرت أتيتها به فأخرجت يدها ووضعت السوار في ساعدها فتحيرت من بياض يدها وحسن زندها الذي يسبي الناظر وتذكرت قول الشاعر:
وسواعد تزهو بحسن أساور كالنار تضرم فوق ماء جار
فكأنما والتبر محتاط بـهـا ماء تمنطق معجباً بالنـار
فأخذت يدها وعصرتها ولويتها فقال له المرأة: الله أكبر لم فعلت هذا الجرم إن ذلك السقا الذي كان يدخل بيتنا منذ ثلاثين سنة ولم نر فيه خيانة أخذ اليوم يدي وعصرها ولواها فقال الله: نسأل الله الأمان أيتها المرأة إني تائب مما كان مني فاستغفري الله فقالت المرأة: غفر الله لي ولك ورزقنا حسن العاقبة فلم كان الغد جاء الرجل السقا وألقى نفسه بين يدي المرأة وتمرغ على التراب واعتذر إليها، وقال: يا سيدتي اجعليني في حل مما أغراني به الشيطان حيث أضلني وأغواني. فقالت له المرأة: امض إلى حال سبيلك فإن ذلك الخطأ لم يكن منك وإنما كان سببه من زوجي حيث فعل ما فعل في الدكان فاقتص الله منه في الدنيا وقيل أن الرجل الصائغ لما أخبرته زوجته بما فعل السقا معها قال: دقة بدقة ولو زدت لزاد السقا فصار هذا الكلام مثلاً سائراً بين الناس فينبغي للمرأة مع زوجها ظاهراً وباطناً وتقنع منه بالقليل إن لم يقدر على الكثير وتقتدي بعائشة الصديقة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما لتكون مع حواشي السلف.
ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان امرأة صالحة في بني إسرائيل وكانت تلك المرأة دينة عابدة تخرج كل يوم إلى المصلى بستان فإذا خرجت إلى المصلى تدخل ذلك البستان وتتوضأ منه، وكان في البستان شيخان يحرسانه فتعلق الشيخان بتلك المرأة وراوداها عن نفسها فأبت، فقالا لها: إن لم تمكنينا من نفسك لنشهدن عليك بالزنا فقالت لهما الجارية: الله يكفيني شركما ففتحا باب البستان وصاحا فأقبل عليهما الناس من كل مكان وقالوا: ما خبركما؟ فقالا: إنا وجدنا هذه الجارية مع شاب يفجر بها وانفلت الشاب من أيدينا وكان الناس في ذلك الوقت ينادون بفضيحة الزاني ثلاثة أيام، ثم يرجمونه فنادوا عليها ثلاثة أيام من أجل الفضيحة وكان الشيخان في كل يوم يدانون منها ويضعان أيديهما على رأسها ويقولان لها: الحمد لله الذي أنزل بك نقمته. فلما أرادوا رجمها تبعهم دانيال وهو ابن اثنتي عشرة سنة وهذه أول معجزة على نبينا عليه الصلاة والسلام ولم يزل تابعاً لهم حتى لحقهم وقال: لا تعجلوا عليها بالرجم حتى أقضي بينهم فوضعوا له كرسياً.
ثم جلس وفرق الشيخين وهو أول من فرق بين الشهود فقال لأحدهما: ما رأيت؟ فذكر له ما جرى فقال له: حصل ذلك في أي مكان في البستان؟ فقال: في الجانب الشرقي تحت شجرة كمثري ثم سأل الثاني عما رأى، فأخبره بما جرى فقال له: في أي مكان في البستان؟ فقال: في الجانب الغربي تحت شجرة تفاح هذا والجارية واقفة رافعة رأسها ويديها إلى السماء، وهي تدعو الله بالخلاص فأنزل الله تعالى صاعقة من العذاب فأحرقت الشيخين وأظهر الله تعالى براءة الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصاعقة نزلت على الشيخين فأحرقتهما وأظهر الله براءة الجارية وهذا أول ما جرى من المعجزات لنبي الله دانيال عليه السلام. ويحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد خرج يوماً من الأيام هو وأبا إسحاق النديم وجعفر البرمكي وأبو نواس وساروا في الصحراء فرأوا شيخاً متكئاً على حمار له فقال هارون الرشيد لجعفر: اسأل هذا الشيخ من أين هو؟ فقال له جعفر: من أين جئت؟ قال: من البصرة فقال له جعفر: وإلى أين سيرك؟ قال إلى بغداد قال: وما تصنع فيها؟ قال: ألتمس دواء لعيني فقال هارون الرشيد: يا جعفر مازحه فقال: إذا مازحته أسمع منه ما أكره فقال: بحقي عليك أن تمازحه فقال جعفر للشيخ: إن وصفت لك دواء ينفعك ما الذي تكافئني به؟ فقال له: إن الله تعالى يكافئك عني ما هو خير لك من مكافئتي فقال: انصت إلي حتى أصف لك هذا الدواء الذي لا أصفه لأحد غيرك فقال له: وما هو؟ فقال جعفر: خذ لك ثلاث أواق من هبوب الريح وثلاث أواق من شعاع الشمس وثلاث أواق من زهر القمر وثلاث أواق من نور السراج واجمع الجميع وضعها في الريح ثلاثة أشهر ثم بعد ذلك ضعها في هون بلا قعر ودقها ثلاثة أشهر فإذا دققتها تضعها في جفنك مشقوقة وضع الجفة في الريح ثلاثة أشهر ثم استعمل من هذا الدواء في كل يوم ثلاثة دراهم عند النوم واستمر على ذلك ثلاثة أشهر فإنك تعافى إن شاء الله تعالى، فلما سمع الشيخ كلام جعفر انسطح على حماره وضرط ضرطة منكرة وقال: خذ هذه الضرطة مكافأة لك على وصفك هذا الدواء فإذا استعملته ورزقني الله العافية أعطيتك جارية تخدمك في حياتك خدمة يقطع الله بها أجلك فإذا مت وعجل الله بروحك إلى النار وسخمت وجهك بخراها من حزنها عليك وتندب وتلطم وتنوح وتقول في نياحها: يا ساقع الذقن ما أسقع ذقنك فضحك هارون الرشيد حتى استلقى على قفاه وأمر لذلك الرجل بثلاثة آلاف دينار.
وحكى الشريف حسين بن ريان أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان جالساً في بعض الأيام للقضاء بين الناس والحكم بين الرعايا وعنده أكابر الصحابة من أهل الرأي والإصابة، فبينما هو جالس إذ أقبل عليه شاب من أحسن الشباب نظيف الثياب وقد تعلق به شابان من أحسن الشباب وقد جذبه الشابان من طوقه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فنظر أمير المؤمنين إليهما وإليه فأمرهما بالكف عنه وأدناه منه وقال للشابان: ما قصتكما معه؟ فقالا: يا أمير المؤمنين نحن أخوان شقيقان وباتباع الحق حقيقان كان لنا أب شيخ كبير حسن لتدبير معظم في القبائل منزه عن الرذائل، معروف بالفضائل ربانا صغاراً واولانا كباراً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشابين قالا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب إن أبانا كان معظماً في القبائل منزه عن الرذائل معروفاً بالفضائل ربانا صغاراً وأولانا كباراً جم المناقب والمفاخر حقيقاً بقول الشاعر:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منـه شـيبـان
فكم أب قد علا بابن ذوي شـرف كما علت برسول اللـه عـدنـان
فخرج يوماً إلى حديقة له ليتنزه في أشجارها ويقتطف يانع ثمارها فقتله هذا الشاب وعدل عن طريق الرشاد ونسألك القصاً كما جاء والحكم فيه بما أمرك الله فنظر عمر إلى الشاب نظرة مرهبة وقال له: قد سمعت من هذين الغلامين الخطاب فما تقول أنت في الجواب؟ وكان ذلك الغلام ثابت الجنان جريء اللسانقد خلع ثياب الهلع ونزع لباس الجزع فتبسم وتكلم بأفصح لسان وحيا أمير المؤمنين بكلمات حسان ثم قال: والله يا أمير المؤمنين لقد وعيت ما ادعوا صدقاً فيما قالاه حيث أخبرا بما جرى وكان أمر الله قدراً مقدوراً ولكن سأذكر قصتي بين يديك والأمر فيها إليك اعلم يا أمير المؤمنين أني من صميم العرب العرباء الذين هم أشرف من تحت الجرباء نشأت في منازل البادية فأصابت قومي سود السنين العادية فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد وسلكت بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها بنياق كريمة عزيزات علي بينهن فحل كريم الأصل كثير النسل مليح الشكل، يكثر منهن النتاج ويمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج فندت بعض النياق إلى حديقة أبيهم وقد ظهر من الحائط أشجارها فتناولته بمشفرها فطردتها عن تلك الحديقة وإذا بشيخ من الحائط قد ظهر وزفير غيظه يرمي الشرر وفي يده اليمنى حجر وهو يهادى كالليث إذا حضر فضرب الفحل بذلك الحجر فقتله لأنه أصاب مقتله فلما رأيت الفحل قد سقط بجانبي آنست إلى قلبي قد توقدت فيه جمرات الغضب قتناولت ذلك الحجر بعينه وضربته به فكان سبباً لحينه ولقي سوء مقبله والمرء مقتول بما قتل وعند إصابته بالحجر صاح صيحة عظيمة وصرخ صرخة أليمة فأسرعت بالسير من مكاني فأسرع هذا الشابان وأمسكاني وإليك أحضراني وبين يديك أوقفاني فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قد اعترفت بما اقترفت وتعذر الخلاص ووجب القصاً ولات حين مناً فقال الشاب: سمعاً وطاعة لما حكم به الإمام ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام ولكن لي أخ صغير كان له أب كبير خصه قبل وفاته بمال جزيل وذهب جليل وقد سلم أمره لي وأشهد الله علي وقال: هذا لأخيك عندك فاحفظه جهدك فأخذت ذلك المال ودفنته ولا أحد يعلم به إلا أنا فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الملا وكنت السبب في ذهابه وطالبك الصغير بحقه يوم يقضي الله بين خلقه وإن أنت انتظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام وعدت وافياً بالذمام ولي من يضمنني على هذا الكلام. فأطرق أمير المؤمنين رأسه ثم نظر إلى من حضره وقال: من يقوم بضمانه والعود إلى مكانه؟ فنظر الغلام إلى وجوه من في المجلس وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين وقال: هذا يكفلني ويضمنني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما أشار إلى أبي ذر وقال: هذا يكفلني ويضمنني قال عمر رضي الله عنه: يا أبا ذر أسمعت هذا الكلام وتضمن لي حضور هذا الغلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أضمنه إلى ثلاثة أيام فرضي بذلك وأذن للغلام في الإنصراف فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها أن يزول أو زال ولم يحضر الشاب إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر وأبو ذر قد حضر والخصمان ينتظران فقالا: أين الغريم يا أبا ذر كيف رجوع من فر، ولكن نحن لا نبرح من مكاننا حتى تأتينا للأخذ بثأرنا به. فقال أبو ذر: وحق الملك العلام أن انقضت الثلاثة أيام ولم يحضر الغلام وفيت بالضمان وسلمت نفسي للإمام فقال عمر رضي الله عنه: والله إن تأخر الغلام لأقضين في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام فهملت عبرات الحاضرين وارتفعت زفرات الناظرين وعظم الضجيج فعرض أكابر الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الاثنية فأبيا ولم يقبلا إلا الأخذ بالثأر، فبينما الناس يموجون ويضجون تأسفاً على أبي ذر إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه بأحسن سلام ووجهه مشرق يتهلل وبالعرق يتكلل وقال له: قد أسلمت الصبي إلى أخواله وعرفتهم بجميع أحواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرة الحر ووفيت فاه الحر فتعجب الناس من صدقه ووفائه وإقدامه على الموت واجترائه فقال له بعضهم: ماأكرمك من غلام وأوفاك بالعهد والزمام فقال الغلام: أما تحققتم أن الموت إذا حضر لا ينجو منه أحد وغنما وفيت كيلا يقال ذهب الوفاء من الناس فقال أبو ذر: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم ولا رأيته قبل ذلك اليوم ولكن لما أعرض عمر حضر وقصدني وقال: هذا يضمنني ويكفلني لم أستحسن رده، وأبت المروة أن تخيب قصده إذ ليس في إجابة القصد من باس كيلا يقال ذهب الفضل من الناس فعند ذلك قال الشابان: يا أمير المؤمنين قد وهبنا لهذا الشاب دم أبينا حيث بدل الوحشة بالإيناس كيلا يقال ذهب المعروف من الناس فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه بالذمام واستكبر مروءة إبي ذر دون جلسائه واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف وأثنى عليهما ثناء الشاكر وتمثل بقول الشاعر:
من يصنع الخير بين الـورى لا يذهب الخير بين الله والناس
ثم عرض عليهما أن يصرف دية أبيهما من بيت المال فقالا: إنما عفونا عنه ابتغاء وجه الله الكريم المتعال ومن بيته كذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى.
ومما يحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان له ولد قد بلغ من العمر ستة عشرة عاماً، وكان معرض عن الدنيا وسالكاً طريقة الزهاد والعباد فكان يخرج لإلى المقابر ويقول: قد كنتم تملكون الدنيا فما ذلكم بمنجيكم وقد صرتم إلى قبوركم فيا ليت شعري ما قلتم وما قيل لكم ويبكي بكاء الخائف الوجل وينشد قول القائل:
تروعني الجنائز في كل وقت ويحزنني بكاء النـائحـات
فاتفق أن أباه مر عليه في بعض الأيام وهو في موكبه وحوله وزرائه وكبراء دولته وأهل مملكته فرأوا ولد أمير المؤمنين وعلى جسد جبة من صوف وعلى رأسه مئزر من صوف فقال بعضهم لبعض: لقد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك فلو عاتبه لرجع عما هو فيه، فسمع أمير المؤمنين كلامهم فكلمه في ذلك وقال له: لقد فضحتني بما أنت عليه فنظر إليه ولم يجبه. ثم نظر إلى طائر على شرفة من شرفات القصر فقال له: أيها الطائر بحق الذي خلقك أن تسقط على يدي فانقض الطائر على يد الغلام ثم قال له: ارجع إلى موضعك فرجع إلى موضعه ثم قال له: اسقط على يد أمير المؤمنين فأبى أن يسقط على يده، فقال الغلام لأبيه: يا أمير المؤمنين أنت الذي فضحتني بين الأولياء بحبك الدنيا، وقد عزمت على مفارقتك مفارقة لا أعود إليك بعدها إلا في الآخرة. ثم انحدر في البصرة فكان يعمل مع الفعلة في الطين وكان لا يعمل في كل يوم إلا بدرهم ودانق فيتقوت بالدانق ويتصدق بالدرهم قال أبو عامر البصري وكان قد وقع في داري حائط فخرجت إلى موقف الفعلة لأنظر رجلاً يعمل لي فيه فوقعت عيني على شاب مليح ذي وجه صبيح فجئت إليه وسلمت عليه وقلت له: يا حبيبي أتريد الخدمة؟ فقال: نعم فقلت: قم معي إلى بناء الحائط فقال لي: بشروط أشترطها عليك قلت: يا حبيبي ما هي؟ قال: الأجرة درهم ودانق وإذا أذن المؤذن تتركني حتى أصلي مع الجماعة قلت: نعم.
ثم أخذته وذهبت به إلى المنزل فخدم خدمة لم أر مثلها، وذكرت له الغداء فقال: لا فعلمت أنه صائم فلما سمع الآذان قال لي: قد علمت الشرط فقلت: نعم فحل حزامه وتفرغ للوضوء وتوضأ وضوءاً لم أر أحسن منه. ثم خرج إلى الصلاة فصلى مع الجماعة ثم رجع إلى خدمته فلما أذن العصر توضأ وذهب إلى الصلاة ثم عاد إلى الخدمة فقلت له: يا حبيبي قد انتهى وقت الخدمة فإن خدمة الفعلة إلى العصر فقال: سبحان الله إنما خدمتي إلى الليل ولم يزل يخدم إلى الليل فأعطيته درهمين. فلما رآهما قال: ما هذا؟ قلت: والله إن هذا بعض أجرتك لاجتهادك في خدمتي، فرمى بهما إلي وقال: لا أريد زيادة على ما كان بيني وبينك فرغبته فلم أقدر عليه فأعطيته درهماً ودانقاً وسار، فلما أصبح الصباح بكرت إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: أنه لا يأتي ههنا إلا في يوم السبت فقط، فلما كان يوم السبت الثاني ذهبت إلى ذلك المكان فوجدته فقلت له: باسم الله تفضل إلى الخدمة. فقال لي: على الشروط التي تعلمها قلت: نعم فذهبت به إلى داري ووقفت وهو لا يراني فأخذ كفاً من الطين ووضعه على الحائط فإذا الحجارة يتركب بعضها على بعض فقلت: هكذا أولياء الله فخدم يومه ذلك وزاد فيه على ما تقدم فلما كان الليل دفعت له أجرته فأخذها وسار فلما جاء يوم السبت الثالث أتيت إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: هو مريض راقد في خيمة فلانة وكانت تلك المرأة مشهورة بالصلاح ولها خيمة من قصب الجبانة فسرت إلى الخيمة ودخلتها فإذا هو مضطجع على الأرض وليس تحته شيء وقد وضع رأسه على لبنة ووجهه يتهلل نوراً فسلمت عليه فرد علي السلام، فجلس عند رأسه أبكي على صغر سنه وغربته وتوفيقه لطاعة ربه.
ثم قلت له: ألك حاجة؟ قال: نعم قلت: وما هي؟ قال: إذا كان الغد تجيء إلي في وقت الضحى فتجدني ميتاً فتغسلني وتحفر قبري ولا تعلم بذلك أحداً وتكفنني في هذه الجبة التي علي بعد أن تفتقها وتفتش جيبها وتخرج ما فيه وتحفظه عندك فإذا صليت علي وواريتني في التراب فاذهب إلى بغداد وارتقب الخليفة هارون الرشيد حتى يخرج وادفع له ما تجده في جيبي، واقرئه من السلام، ثم تشهد وأثنى على ربه بأبلغ الكلمات وأنشد هذه الأبيات:
بلغ أمانة من وافت مـنـيتـه إلى الرشيد فإن الأجر في ذاكا
وقل غريب له شوق لرؤيتكـم على تمادي الهوى والبعد لباكا
ما صده عنك لا بغض ولا ملل لأن قربته من لثم يمـنـاكـا
وإنما أبعدته عنـك يا أبـتـي نفس لها عفة عن نيل دنياكـا
ثم أن الغلام بعد ذلك اشتغل بالإستغفار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام بعد ذلك اشتغل بالإستغفار والصلاة والسلام على سيد الأبرار وتلاوة بعض الآيات، ثم أنشد هذه الأبيات:
يا والدي لا تفتر بتـنـعـم فالعمرينفد والنـعـيم يزول
وإذا علمت بحال قوم ساءهم فاعلم بأنك عنهمو مسـؤول
وإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمـول
قال أبو عامر البصري: فلما فرغ الغلام من وصيته وإنشاده ذهبت عنه وتوجهت إلى بيتي فلما أصبح الصباح ذهبت إليه من الغد وقت الضحى فوجدته قد مات رحمة الله عليه فغسلته وفتقت جبته فوجد في جيبه ياقوتة تساوي آلافاً من الدنانير فقلت في نفسي: والله إن هذا الفتى لقد زهد في الدنيا غاية الزهد ثم بعد أن دفنته توجهت إلى بغداد ووصلت إلى دار الخلافة وصرت أترقب خروج الرشيد إلى أن خرج فتعرضت له في بعض الطرق ودفعت إليه الياقوتة فلما رآها عرفها فخر مغشياً عليه فقبض علي الخدم فلما أفاق قال للخدم: أفرجوا عنه وأرسلوه برفق إلى القصر ففعلوا مأمرهم به فلما دخل قصره طلبني وأدخلني محله وقال لي: ما فعل صاحب هذه الياقونة؟ فقلت: قد مات ووصفت له حاله فجعل يبكي ويقول: انتفع الولد وخاب الوالد ثم نادى: يا فلانة فخرجت امرأة فلما رأتني أرادت أن ترجع فقال لها: تعالي وما عليك منه فدخلت وسلمت فرمى إليها الياقوتة فلما رأتها صرخت صرخة عظيمة ووقعت مغشياً عليها فلما أفاقت من غشيتها قالت: يا أمير المؤمنين ما فعل الله بولدي؟ فقال لي: أخبرها بشأنه وأخذته العبرة فأخبرتها بشأنه فجعلت تبكي وتقول بصوت ضعيف: ما أشوقني إلى لقائك يا قرة عيني ليتني كنت أسقيك إذا لم تجد من يسقيك ليتني كنت أؤانسك إذا لم تجد مؤانساً، ثم سكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أبكي غريباً أتاه الموت منـفـرداً لم يلق ألفاً له يشكو الذي وجـدا
من بعد عز وشمل كان مجتمعـاَ أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحدا
يبين للناس ما الأيام تـضـمـره لم يترك الموت منا واحداً أبـدا
يا غائباً قد قضى ربي بغربـتـه وصار منيبعد القرب مبتـعـدا
إن أيأس الموت من لقياك يا ولدي فإننا نلتقي يوم الحـسـاب غـدا
فقلت: يا أمير المؤمنين أهو ولدك؟ قال: نعم وقد كان قبل ولايتي هذا الأمر يزور العلماء ويجالس الصالحين فلما وليت هذا الأمر نفر مني وباعد نفسه عني فقلت لأمه: إن هذا الولد منقطع إلى الله تعالى وربما تصيبه الشدائد ويكابد الإمتحان فادفعي إليه هذه الياقوتة ليجدها وقت الإحتياج إليها، فدفعتها إليه وعزمت عليه أن يمسكها فامتثل لأمرها وأخذها منها ثم ترك لنا دنيانا وغاب عنا ولم يزل غائباً عنا حتى لقي الله عز وجل تقياً نقياً ثم قال: قم فأرني قبره فخرجت معه وجعلت أسير إلى أن أريته إياه فجعل يبكي وينتحب حتى وقع مغشياً عليه فلما أفاق من غشيته استغفر الله وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ودعا له بخير ثم سألني الصحبة فقلت له: يا أمير المؤمنين إن لي في ولدك أعظم العظات، ثم انشدت هذه الأبيات:
أنا الغريب فلا آوي إلـى أحـد أنا الغريب وإن أمسيت في بلدي
أنا الغريب فلا أهـل ولا ولـد وليس لي أحد يأوي إلـى أحـد
إلى المساجد آوي بل وأعمرهـا فما يفارقها قلبي مـدى الأبـد
فالحمد لله رب العالمين عـلـى أفضاله لبقاء الروح في الجسد
ومما يحكى عن بعض الفضلاء أنه قال: مررت بفقيه في كتاب وهويقريء الصبيان فوجدته في هيئة حسنة وقماش مليح فأقبلت عليه فقام لي وأجلسني معه فمارسته في القراءات والنحو والشعر واللغة فإذا هو كامل في كل ما يراد منه فقلت له: قوى الله عزمك فإنك عارف بكل مايراد منك ثم عاشرته مدة وكل يوم يظهر فيه حسن فقلت في نفسي: إن هذا شيئ عجيب من فقيه يعلم الصبيان مع أن العقلاء اتفقوا على نقص عقل معلم الصبيان ثم فارقته وكنت كل أيام قلائل أتفقده وأزوره فأتيت إليه في بعض الأيام على عادتي من زيارته فوجدت الكتاب مغلقاً فسألت جيرانه فقالوا: أنه مات عنده ميت فقلت في نفسي: وجب علينا أن نعزيه فجئت إلى بابه وطرقته فخرجت لي جارية وقالت: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك فقالت: إن مولاي قاعداً في العراء وحده فقلت لها: قولي له أن صديقك فلاناً يطلب أن يعزيك فراحت وأخبرته فقال لها: دعيه يدخل فأذنت لي في الدخول فدخلت إليه فرأيته جالساً وحده ومعصباً رأسه فقلت له: عظم الله أجرك وهذا سبيل لا بد لكل أحد منه فعليك بالصبر ثم قلت له: من الذي مات لك؟ فقال: أعز الناس علي وأحبهم إلي فقلت: لعله والدك فقال: لا قلت: والدتك قال: لا. قلت: أخوك قال: لا. قلت: أحد من اقاربك قال: لا. قلت فما نسبته إليك؟ قال: حبيبتي. فقلت في نفسي: هذا أول المباحث في قلة عقله ثم قلت له: قد يوجد غيرها مما هو أحسن منها فقال: أنا ما رأيتها حتى أعرف إن كان غيرها أحسن منها أو لا فقلت في نفسي: وهذا مبحث ثان فقلت له: وكيف عشقت من لا تراها؟ فقال: اعلم أني كنت جالساً في الطاقة وإذا برجل عابر طريق يغني هذا البيت:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي أينما كانـا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
يتبع ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق