
حكاية تودد الجارية الجزء الاخير
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: لما انكسرت السفينة نجوت على لوح منها ووضعت هذا الصبي وأنا على ذلك اللوح فبينما هو في حجري والأمواج تضربني إذ نظرت إلى رجل من ملاحي السفينة وحصل معي وقال لي: والله لقد كنت أهواك وأنت في السفينة، والآن قد حصلت معك فمكنيني من نفسك وإلا قذفتك في هذا البحر فقلت: ويحك أما كان لك مما رأيت تذكرة وعبرة؟ فقال: إني رأيت مثل ذلك مراراً، ونجوت وأنا لا أبالي، فقلت: يا هذا نحن في بلية ارجو السلامة منها بالطاعة لا بالمعصية، فألح علي فخفت منه وأردت أن أخادعه فقلت له: مهلاً حتى ينام هذا الطفل، فأخذه من حجري وقذفه في البحر، فلما رأيت جرأته وما فعل بالصبي طار قلبي وزاد كربي فرفعت رأسي إلى السماء، وقلت: يا من يحول بين المرء وقلبه حل بيني وبين هذا الأسد إنك على كل شيء قدير فوالله ما فرغت من كلامي إلا ودابة قد طلعت من البحر فاختطفته من فوق اللوح وبقيت وحدي وزاد كربي وحزني اشفاقاً على ولدي فأنشدت وقلت:
مرة العين حـبـيبـي ولـدي ضاع حيث الوجه أوهى جلدي
وأرى جسماً غريقاً وغـدت بالتياع الوجد تشوي كبـدي
ليس لي في كربتي من فرج غير ألطافك يا معتـمـدي
أنت يا رب ترى ما حل بـي من غرامي بفراقي ولـدي
فاجمع الشمل وكن لي راحماً فرجائي فيك أقوى عـددي
فبقيت على تلك الحالة يوماً وليلة فلما كان الصباح نظرت قلع سفينة تلوح من بعد، فما زالت الأمواج تقذفني والرياح تسوقني، حتى وصلت إلى تلك السفينة التي كنت أرى قلعها، فأخذني أهل السفينة ووضعوني فيها فنظرت فإذا ولدي بينهم، فتراميت عليه وقلت: يا قوم هذا ولدي فمن أين كان لكم؟ قالوا: بينما نحن نسير في البحر إذ حبست السفينة فإذا دابة كأنها المدينة العظيمة وهذا الصبي على ظهرها يمص إبهامه فأخذناه فلما سمعت ذلك حدثتهم بقصتي وما جرى لي وشكرت ربي على ما أنالني، وعاهدته أن لا أبرح من بيته ولا أنثني عن خدمته وما سألته بعد ذلك شيئاً إلا أعطاني إياه فممدت يدي إلى كيس النفقة وأردت أن أعطيها فقالت: إليك عني يا بطال أأحدثك بإفضاله وكرم فعاله، وآخذ الرفد عن يد غيره فلم أقدر على أن أجعلها تقبل مني شيئاً، فتركتها وانصرفت من عندها وأنا أنشد وأقول هذه الأبيات:
وكم لك من لطف خـفـي يدق خفاه عن فهم الذكـي
وكم بسر أني من بعد عسر وفرج لوعة القلب الشجي
وكم هم تعانيه صـبـاحـاً فتعقبه المسرة بالعـشـي
إذا ضاقت بك الأسباب يوماً فثق بالواحد الصمد العلي
تشفع بالنبي فكـل عـبـد يفوز إذا تشفع بالـنـبـي
وما زالت في عبادة بها ملازمة بيته إلى أن أدركها الموت.
ومما يحكى أنه كان من بني إسرائيل رجل من خيارهم وقد اجتهد في عبادة ربه وزهد دنياه وأزالها عن قلبه، وكانت له زوجة مساعدة له على شأنه مطيعة له في كل زمان وكانا يعيشان من عمل الأطباق والمراوح يعملان النهار كله فإذا كان آخر النهار خرج الرجل بما عملاه في يده ومشى به يمر على الأزقة والطرق يلتمس مشترياً يبيع له ذلك، وكانا يديمان الصوم فأصبحا في يوم من الأيام وهما صائمان وقد عملا يومهما ذلك، فلما كان آخر النهار وخرج على عادته وبيده ما عملاه يطلب من يشتريه منه فمر بباب أحد أبناء الدنيا وأهل الرفاهية والجاه، وكان الرجل وضيء الوجه جميل الصورة فرأته امرأة صاحب الدار فعشقته ومال قلبها إليه ميلاً شديداً وكان زوجها غائباً، فدعت خادمتها وقالت لها: لعلك تتحلين على ذلك الرجل لتأتي به عندنا. فخرجت الخادمة ودعته لتشتري منه ما بيده وردته من طريقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخادمة خرجت إلى الرجل ودعته وقالت: ادخل فإن سيدتي تريد أن تشتري من هذا الذي بيدك شيئاً بعد أن تختبره وتنظر إليه، فتخيل الرجل أنها صادقة في قولها، ولم ير في ذلك بأساً فدخل وقعد كما أمرته فأغلقت الباب عليه وخرجت سيدتها من بيتها وأمسكت بجلابيبه وجذبته وأدخلته وقالت له: كم ذا أطلب خلوة منك، وقد عيل صبري من أجلك، وهذا البيت مبخر والطعام محضر وصاحب الدار غائب في هذه الليلة وأنا قد وهبت لك نفسي ولطالما طلبتني الملوك والرؤساء وأصحاب الدنيا فلم ألتفت لأحد منهم وطال أمرها في القول والرجل لا يرفع رأسه من الأرض حياء من الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه كما قال الشاعر:
ورب كبيرة ما حال بيني وبين ركوبها إلى الحياء
وكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء
قال: وطمع الرجل في أن يخلص نفسه منها فلم يقدر فقال: أريد منك شيئاً فقالت: وما هو؟ قال: أريد ماء طاهراً أصعد به إلى أعلى موضع في دارك لأقضي به أمراً وأغسل به درناً مما لا يمكنني أن أطلعك عليه، فقالت: الدار متسعة ولها خبايا وزوايا، وبيت المطهرة معد، قال: ما غرضي إلا الارتفاع، فقالت لخادمتها: اصعدي به إلى المنظرة العليا من الدار، فصعدت به إلى أعلى موضع فيها ودفعت له آنية الماء ونزلت، فتوضأ الرجل وصلى ركعتين ونظر إلى الأرض ليلقي نفسه فرآها بعيدة، فخاف أن لا يصل إليها وقد يتمزق، ثم تفكر في معصية الله تعالى وعقابه فهان عليه بذل نفسه وسفك دمه، فقال: إلهي وسيدي ترى ما نزل بي ولا يخفى عليك حالي إنك على كل شيء قدير، ثم إن الرجل ألقى نفسه من أعلى المنظرة، فبعث الله إليه ملكاً احتمله على جناحه وأنزله إلى الأرض سالماً دون أن يناله ما يؤذيه فلما استقر بالأرض حمد الله عز وجل على ما أولاه من عصمته وما أناله من رحمته.
وسار دون شيء إلى زوجته وكان قد أبطأ عنها فدخل وليس معه شيء فسألته عن سبب بطئه وعما خرج به في يده وما فعل به وكيف رجع بدون شيء فأخبرها بما عرض له من الفتنة وأنه ألقى نفسه من ذلك الموضع فنجاه الله، فلقالت زوجته: الحمد لله الذي صرف عنك الفتنة وحال بينك وبين المحنة ثم قالت: يا رجل إن الجيران قد تعودوا منا أن نوقد تنوراً كل ليلة، فإن رأونا الليلة دون نار، وعلموا أننا بلا شيء ومن شكر اله كتم ما نحن فيه من الخصاصة ووصال صوم هذه الليلة باليوم الماضي وقيامها لله تعالى، فقامت إلى التنور وملأته حطباً وأضرمته لتغالط به الجيران وأنشدت تقول هذه الأبيات:
سأكتم ما بي من غرامي وأشجانـي وأضرم ناري كي أغالط جيرانـي
وأرضى بما أمضى من الحكم سيدي عساه يرى ذلي إليه فيرضـانـي
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة أضرمت النار كي تغالط الجيران نهضت هي وزوجها فتوضآ وقاما إلى الصلاة، فإذا امرأة من جاراتها تستأذن في أن توقد من تنورها فقالا لها: لا شأنك والتنور فلما دخلت المرأة من التنور لتأخذ النار نادت: يا فلانه أدركي خبزك قبل أن يحترق، فقالت امرأة الرجل لزوجها: أسمعت ما تقول هذه المرأة؟ فقال: قومي وانظري، فقامت وتوجهت للتنور فإذا هو قد امتلأ من خبز نقي أبيض فأخذت المرأة الأرغفة ودخلت على زوجها وهي تشكر الله عز وجل على ما أولى من الخير العميم والمن الجسيم فأكلا من الخبز وشربا من الماء وحمدا الله تعالى، ثم قالت المرأة لزوجها: تعال ندعو الله تعالى عساه أن يمن علينا بشيء يغنينا عن كد العيشة وتعب العمل ويعيننا به على عبادته والقيام بطاعته قال لها: نعم فدعا الرجل ربه وأمنت المرأة على دعائه، فإذا السقف قد انفرج ونزلت ياقوتة أضاء البيت من نورها فزادا شكراً وثناء وسرا بتلك الياقوتة سروراً كثيراً وصليا ما شاء الله تعالى.
فلما كان آخر الليل ناما فرأت المرأة في منامها كأنها دخلت الجنة وشاهدت منابر كثيرة مصفوفة وكراسي كثيرة منصوبة، فقالت: ما هذه المنابر وما هذه الكراسي؟ فقيل لها: هذه منابر الأنبياء وهذه كراسي الصديقين والصالحين فقالت: وأين كرسي زوجي فلان؟ فقيل لها: هذا فنظرت إليه فإذا في جانبه ثلم فقالت: وما هذا الثلم؟ فقيل لها: هو ثلم الياقوتة المنزلة عليكما من سقف بيتكما.
فانتبهت من منامها وهي باكية حزينة على نقصان كرسي زوجها بين كراسي الصديقين فقالت: أيها الرجل ادع ربك أن يرد هذه الياقوتة إلى موضعها فمكابدة الجوع والمسكنة في الأيام القلائل أهون من ثلم كرسيك بين أصحاب الفضائل فدعا الرجل ربه فإذا الياقوتة قد سارت صاعدة إلى السقف وهما ينظران إليها وما زالا على فقرهما وعبادتهما حتى لقيا الله عز وجل. ومما يحكى أن سيدي إبراهيم الخواص رحمة الله عليه قال: طالبتني نفسي، في وقت من الأوقات، بالخروج إلى بلاد الكفار فكففتها فلم تكف وتكتف، وعملت على نفي هذا الخاطر فلم ينتف، فخرجت أخترق ديارها وأجول أقطارها والعناية تكتنفني والرعاية تحفني لا ألقى نصرانياً إلا غض ناظره عني وتباعد مني إلى أن أتيت مصراً من الأمصار فوجدت عند بابها جماعة من العبيد عليهم الأسلحة وبأيديهم الحديد فلما رأوني قاوا على القدوم وقالوا لي: أطبيب أنت؟ قلت: نعم فقالوا: أجب الملك واحتملوني إليه فإذا هو ملك عظيم ذو وجه وسيم. فلما دخلت عليه نظر إلي وقال: أطبيب أنت؟ قلت: نعم فقال: احملوه إليها وعرفوه بالشرط قبل دخوله عليها فأخرجوني وقالوا لي: إن للملك ابنة قد أصابها إعلال شديد وقد أعيا الأطباء علاجها، وما من طبيب دخل عليها وعالجها ولم يفد طبه إلا قتله الملك فانظر ماذا ترى؟ فقلت لهم: إن الملك سألني إليها فأدخلوني عليها فاحتملوني إلى بابها فلما وصلت قرعوه فإذا هي تنادي: من داخل الدار أدخلوها على الطبيب صاحب السر العجيب وأنشدت تقول:
افتحوا الباب فقد جاء الطبـيب وانظروا نحوي فلي سر عجيب
فلكم مـقـتـرب مـبـتـعـد ولكم مبتـعـد وهـو قـريب
كنتم فيما بينـكـم فـي غـربة فأراد الحق أنسـي بـغـريب
جمـعـتـنـا نـسـبة دينـية فترى أي مـحـب وحـبـيب
ودعاني للـتـلاقـي إذا دعـا حجب العاذل عنا والـرقـيب
فاتركوا عذلي وخلوا لومـكـم إنني يا ويحكم لـسـت أجـيب
لست ألوي نحـو فـان غـائب إنما قصـدي بـاق لا يغـيب
قال: فإذا شيخ كبير قد فتح الباب بسرعة وقال: ادخل فدخلت فإذا بيت مبسوط بأنواع الرياحين وستر مضروب في زاويته ومن خلفه أنين ضعيف يخرج من هيكل نحيف فجلست بإزاء الستر وأردت أن أسلم فتذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه فأمسكت فنادت من داخل الستر: أين سلام التوحيد والإخلاص يا خواص؟ قال: فتعجبت من ذلك وقلت: من أين عرفتيني؟ فقالت: إذا صفت القلوب والخواطر أعربت الألسن عن مخبآت الضمائر وقد سألته البارحة أن يبعث إلي ولياً من أوليائه يكون لي على يديه الخلاص فنوديت من زوايا بيتي لا تحزني إنا سنرسل إليك إبراهيم الخواص. فقلت لها: ما خبرك؟ فقالت لي: أنا منذ أربع سنين قد لاح لي الحق المبين فهو المحدث والأنيس والمقرب والجليس. فرمقني قومي بالعيون وظنوا بي الظنون ونسبوني إلى الجنون فما دخل علي طبيب منهم إلا أوحشني ولا زائر إلا أدهشني فقلت: وما دليل ذلك على ما وصلت إليه، قالت: براهينه الواضحة وآياته اللائحة وإذا وضح لك السبيل شاهدت المدلول والدليل، قال: فبينما أنا أكلمها إذ جاء الشيخ الموكل بها وقال لها: ما فعل طبيبك؟ قالت: عرف العلة وأصاب الدواء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الموكل بها لما دخل عليها قال لها: ما فعل طبيبك؟ قالت: عرف العلة وأصاب الدواء فظهر لي منه البشر والسرور وقابلني بالبر والحبور، فسار إلى الملك وأخبره، فحضه الملك على إكرامي فبقيت اختلف إليها سبعة أيام فقالت: يا أباإسحق متى تكون الهجرة إلى دار الإسلام؟ فقلت: كيف يكون خروجك ومن يتجاسر عليه؟ فقالت: الذي أدخلك علي وساقك إلي فقلت: نعم ما قلت.
فلما كان الغد خرجنا على باب الحصن وحجب عنا العيون من أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، قال: فما رأيت أصبر منها على الصيام والقيام فجاورت بيت الله الحرام سبعة أعوام ثم قضت نحبها وكانت أرض مكة تربتها أنزل الله عليها الرحمات ورحم الله من قال هذه الأبيات:
ولما أتوني بالطبـيب وقـد بـدت دلائل من دم سفوح ومن سـقـم
نضا الثوب عن وجهي فلم ير تحته سوى نفس من غير روح ولا جسم
فقال لهـم ذا قـد تـعـذر بـرؤه وللحب سر ليس يدرك بالـوهـم
فقالوا إذا لم يعلم الـنـاس مـابـه ولم يك تعريف بـحـد ولا رسـم
فكيف يكون الطب فيه مؤثـراً دعوني فإني لست أحكم بالوهم
ومما يحكى أن رجلاً من خيار بني إسرائيل كان كثير المال وله ولد صالح مبارك فحضرت الرجل الوفاة، فقعد ولده عند رأسه وقال: ياسيدي أوصني فقال: يا بني لا تحلف بالله باراً ولا فاجراً ثم مات الرجل وبقي الولد بعد أبيه فتسامع به فساق بني إسرائيل، فكان الرجل يأتيه فيقول لي: عند والدك كذا وكذا وأ،ت تعلم بذلك أعطني ما في ذماته وإلا فاحلف فيقف الولد على الوصية ويعطيه جميع ما طلبه فما زالوا به حتى فني ماله واشتد إقلاله، وكان للولد زوجة صالحة مباركة وله منها ولدان صغيران فقال لها: إن الناس قد أكثروا طلبي، ومادام معي ما أدفع به عن نفسي بذلته والآن لم يبق لي شيء فإن طالبني مطالب امتحنت أنا وأنت فالأولى أن نفوز بأنفسنا ونذهب إلى موضع لا يعرفنا فيه أحد ونتعيش بين أظهر الناس قال: فركب بها البحر وبولديه وهو لا يعرف أين يتوجه والله يحكم ولا معقب لحكمه ولسان الحال يقول:
يا خارجاً خوف العدا من داره واليسر قد وافاه عند فـراره
لا تجزعن من البعاد فربـمـا عز الغريب يطول بعد مراره
لو قد أقام الدر في أصـدافـه ما كان تاج الملك بيت قراره
قال: فانكسرت السفينة وخرج الرجل على لوح وخرجت المرأة على لوح وخرج كل ولد على لوح وفرقتهم الأمواج، فحصلت المرأة على بلدة، وحصل أحد الولدين على بلدة أخرى والتقط الولد الآخر أهل سفينة في البحر، وأما الرجل فقذفته الأمواج إلى جزيرة منقطعة، فخرج إليها وتوضأ من البحر وأذن وأقام الصلاة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرجل لما خرج إلى الجزيرة وتوضأ من البحر، وأذن وأقام الصلاة. فإذا قد خرج من البحر أشخاص بألوان مختلفة فصلوا معه ولما فرغ قام إلى شجرة في الجزية فأكل من ثمرها فزال عنه جوعه ثم وجد عين ماء فشرب منها وحمد الله عز وجل وبقي ثلاثة أيام يصلي وتخرج أقوام يصلون مثل صلاته، وبعد مضي الأيام الثلاثة سمع منادياً يناديه: يا أيها الرجل الصالح البار بأبيه المجل قدر ربه، لا تحزن، إن الله عز وجل مخلف عليك ما خرج من يدك فإن في هذه الجزية كنوزاً وأموالاً ومنافع يريد الله أن تكون لها وارثاً وهي في موضع كذا وكذا من هذه الجزيرة فاكشف عنها وإنا لنسوق إليك السفن فأحسن إلى الناس وادعهم إليك، فإن الله عز وجل يميل قلوبهم إليك فقصد ذلك الموضع من الجزيرة وكشف الله تعالى له عن تلك الكنوز وصارت أهل السفن ترد عليه فيحسن إليهم إحساناً عظيماً ويقول لهم: لعلكم تدلون علي الناس. فإني أعطيكم كذا وكذا، واجعل لهم كذا وكذا فصار الناس يأتون من الأقطار والأماكن. وما مضت عليه عشري سنين إلا والجزيرة قد عمرت والرجل صار ملكها لا يأوي إليه أحد إلا أحسن إليه.
وشاع ذكره في الأرض بالطول والعرض. وكان ولده الأكبر قد وقع عند رجل علمه وأدبه والآخر قد وقع عند رجل رباه وأحسن تربيته وعلمه طرق التجارة والمرأة قد وقعت عند رجل من التجار ائتمنها على ماله وعاهدها على أن لا يخونها وأن يعينها على طاعة الله عز وجل، وكان يسافر بها في السفينة إلى البلاد ويستصحبها في أي موضع أراد، فسمع الولد الأكبر بصيت ذلك الملك فقصده وهو لا يعلم من هو. فلما دخل عليه أخذه وائتمنه على سره وجعله كاتباً له وسمع الولد الآخر بذلك الملك العادل الصالح فقصده وسار إليه وهو لا يعلم من هو أيضاً. فلما دخل عليه وكله على النظر في أموره، وبقي مدة من الدهر في خدمته وكل واحد منهم لا يعلم بصاحبه وسمع الرجل التاجر الذي عند المرأة بذلك الملك وبره للناس وإحسانه إليهم فأخذ جانباً من الثياب الفاخرة ومما يستظرف من تحف البلاد وأتى بسفينة والمرأة معه حتى وصل إلى شاطئ الجزيرة، ونزل إلى الملك وقدم له هديته فنظرها الملك وسر بها سروراً كبيراً وأمر للرجل بجائزة سنية، وكان في الهدية عقاقير، أراد الملك من التاجر أن يعرفها له بأسمائها ويخبره بمصالحها فقال الملك للتاجر: أقم الليلة عندنا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر لما قال له الملك: أقم الليلة عندنا قال: إن لي في السفينة وديعة عاهدتها أن لا أوكل أمرها إلى غيري وهي امرأة صالحة تمنيت بدعائها وظهرت لي البركة في آرائها فقال الملك: سأبعث لها أمناء يبيتون عليها ويحرسون كل ما لديها قال: فأجابه لذلك وبقي عند الملك ووجه الملك كاتبه ووكيله إليها وقال لهما: اذهبا واحرسا سفينة هذا الرجل الليلة إن شاء الله تعالى قال: فسارا وصعدا إلى السفينة وقعد هذا على مؤخرها وذاك على مقدمها وذكر الله عز وجل برهة من الليل ثم قال أحدهما للآخر: يا فلان إن الملك قد أمرنا بالحراسة ونخاف النوم فتعالى نتحدث بأخبار الزمان وما رأينا من الخير والامتحان، فقال الآخر: يا أخي أما أنا فمن امتحاني أن فرق الدهر بيني وبين أبي وأمي وأخ لي كان اسمه كاسمك، والسبب في ذلك أنه ركب والدنا البحر من بلد كذا وكذا، فهاجت علينا الرياح واختلفت فكسرت السفينة وفرق الله شملنا.
فلما سمع الآخر بذلك قال: وما كان اسم والدتك يا أخي؟ قال: فلانة قال: وما اسم والدك؟ قال: فلان، فترامى الأخ على أخيه وقال له: أنت أخي. والله حقاً وجعل كل واحد منهما يحدث أخاه بما جرى عليه في صغره والأم تسمع الكلام ولكنها كتمت أمرها وصبرت نفسها، فلما طلع الفجر قال أحدهما للآخر: سر يا أخي نتحدث في منزلي قال: نعم فسارا، وأتى الرجل فوجد المرأة في كرب شديد، فقال لها: ما دهاك وما أصابك؟ قالت: وبعثت إلي الليلة من أرادني بالسوء وكنت منهما في كرب عظيم، فغضب التاجر وتوجه للملك وأخبره بما فعل الأمينان، فأحضرهما الملك بسرعة وكان يحبهما لما تحقق فيهما من الأمانة والديانة ثم أمر بإحضار المرأة حتى تذكر ما كان منهما مشافهة. فجيء بها وأحضرت فقال لها: أيتها المرأة ماذا رأيت من هذين الأمينين؟ فقالت: أيها الملك أسألك بالله العظيم رب العرشي الكريم. إلا ما أمرتهما يعيدا كلامهما الذي تكلما به البارحة فقال لهما الملك: قولا ما قلتما ولا تكتما منه شيئاً فأعادا كلامهما. وإذا بالملك قد قام من فوق السرير وصاح صيحة عظيمة وترامى عليهما واعتنقهما. وقال: والله أنتما ولداي حقاً، فكشفت المرأة عن وجهها وقالت: أنا والله أمهما فاجتمعوا جميعاً وصاروا في ألذ عيش وأهنأه إلى أن أتاهم الموت فسبحان من إذا قصده العبد نجا ولم يخب ما أمله فيه ورجا وما أحسن ما قيل في المعنى:
لكل شيء من الأشياء مـيقـات والأمر فيه أخي محو واثـبـات
لا تجز عن لامر قد دهـيت بـه فقد أتانا بيسر الـعـسـر آيات
ورب ذي كربة بانت مضرتهـا تبدو وباطنها فيه الـمـسـرات
وكم مبهان عيان الناس تشـنـؤه من الهوان تغشية الكـرامـات
هذا الذي ناله كـرب وكـابـده ضر وحلت به في الوقت آفات
وفرق الدهر منه شمل الفـتـه فكلهم بعد طول الجمع اشتـات
أعطاه مولاه خيرا ثم جاء بـهـم وفي الجميع إلى المولى اشارات
سبحان من عمت الأكوان قدرتـه وأخبرت بـتـدانـيه الـدلالات
فهو القريب ولكـن لا يكـيفـه عقل وليست تدانيه المسـافـات
